الشوفينية وسيكولوجية الإنسان الكردي

افتتاحية جريدة الوحدة (يكيتي) *

تعود بدايات الممارسة المقيتة للسياسة الشوفينية المنتهجة حيال شعبنا الكردي في سوريا لما يقارب نصف قرن من الزمن، عندما بدأت بعض القوى القوموية التنكر للعهد الوطني الذي تشاركَ بموجبه العرب والكرد وأبناء القوميات الأخرى في طرد المحتل الفرنسي وإقامة الدولة السورية المستقلة التي رسمت حدودها في إطار التقسيم الأوربي لشرق البحر المتوسط، ورضي بها الجميع بإرادتهم الحرة، كأمر واقع يقتضي التعامل معه والحفاظ عليه.

وعلى هذا الأساس، فقد فصلت تلك الحدود المصطنعة بين عرب سوريا وأشقائهم في الدول المجاورة، مثلما فصلت بين أكرادها وأشقائهم في الجوار الكردي…

ولكن الطرفين، اختارا العيش المشترك في الوطن الناشئ على أساس الولاء لسوريا دون غيرها، بحيث لا يتقدم فيها مواطن عربي من موريتانيا مثلاً على مواطن كردي من سوريا، ولا مسلم من إندونيسيا، كمثل آخر، على مواطن مسيحي فيها، على أن ينطبق نفس المبدأ على كل مكوّنات الشعب السوري.
لكن ذلك العهد، الذي كتب بدماء وتضحيات وجهود الجميع، لم يجد ما يستحقه من احترام لمبادئه والتزام بقيمه، فسرعان ما تدرّجت سوريا، في ظل ذلك الخلل، من دولة لكل السوريين إلى دولة لعنصر واحد ثم لحزب وحيد وبعدها لرأي لا آخر له رسمياً، ووجد شعبنا الكردي نفسه من خلال هذا التحوّل الخطير، وفي ظل أنظمة متعاقبة، محاطاً بسياسة شوفينية تنكر عليه وجوده وتتنكر لماضيه وتغلق عليه أبواب مستقبله، ووجدت تلك السياسة تطبيقاتها على الأرض وفي النفوس معاً على شكل مشاريع عنصرية لطخت تاريخ سوريا الوطني، من حزام عربي يحاصر مناطقه التاريخية وشطب عشوائي في سجلات الأحوال المدنية لتغيير تركيبها القومي، وابتكار لقوانين استثنائية وحملات تعريب طالت المعالم البشرية والطبيعية التاريخية، وتدشين سياسة تمييز قومي لتقليص فرص المساواة أمام الإنسان الكردي في طريقه إلى مختلف مناحي الحياة، مما أحدث ندوباً عميقة في سيكولوجية هذا الإنسان، وحفرت فيها مشاعر عميقة من الغبن انعكست سلباً على تطوره الاجتماعي والثقافي والسياسي، ومنها الشعور بالاغتراب كحالة مريرة عامة، خاصة بالنسبة لأبناء الفئات الأكثر تضرراً من تلك المشاريع وفي مقدمتهم الذين لا يملكون قطعة أرض في منطقة الحزام العربي، أو بالأحرى كانت لهم وانتزعت منهم بموجب مشروع ظالم أجبر قسماً منهم، بعد أن ضاقت بهم السبل، للهجرة إلى أحزمة الفقر المحيطة بدمشق وغيرها من المدن السورية لتستمر معاناتهم بأشكال أخرى، في حين تضاعفت تلك المعاناة عند من اعتبروا مكتومي القيد وذوي البطاقات الحمراء التي ترمز لأسوأ مشروع شوفيني جرّد بموجبه مئات الآلاف من الكرد السوريين من جنسيتهم التي تأبى أي دولة حضارية في العالم تجريدها أو منعها عن مواطنيها ومعاملتهم بمثل هذا السلوك المخالف لسنة الكون وقوانين العباد والشرائع السماوية، مما ألزم الآلاف كذلك للهجرة الخارجية المحفوفة بالمخاطر، وإذا نجح أحد هؤلاء في الوصول إلى إحدى الدول الأوربية عبر مغامرة قد يدفع حياته ثمناً لها، فإنه يحصل على جنسية جديدة خلال مدة قصيرة، ليسجل بذلك مفارقة عجيبة لا سابق لها بين بلد الأجداد الذي تركه هارباً من ضغوطات الحياة ومن ظلم ذوي القربى وسياسة التمييز، إلى بلد الآخرين الذي يحتضنه كإنسان يعاد فيه تأهيله من جديد، ليخلق، هذا وذاك، في الداخل الكردي السوري نزوعاً نحو الانعزالية التي بدأت تتنامى في الشارع الكردي وتتغلغل ضمن الخطاب السياسي على شكل مفردات لا تميّز بين العرب، كشعب وثقافة، وبين رموز السياسة الشوفينية، كأنظمة وأفراد، وذلك كنتيجة لشراسة الشوفينية التي تنتج في الطرف الآخر فكراً انعزالياً يلحق الضرر بالقضية الكردية ، ويخلق حالة من التوتر والتشنج لا يستطيع معها حتى بعض المثقفين العرب المتفتحين على هذه القضية تفهمها أحياناً لينزلقوا للاصطفاف مع أنظمتهم، مما يشكل أزمة ثقة متبادلة تعمّقت في السنوات الأخيرة على خلفية تداعيات أحداث آذار 2004، التي استغلتها الشوفينية في إيهام الرأي العام السوري من خلال تصوير تلك الأحداث كإحدى المنتجات الخارجية بدلاً من الركون للحكمة والتعقل في البحث عن دوافعها والتحقيق في أسبابها والاعتراف بوجود حالة احتقان في المناطق الكردية نتيجة التراكمات التي خلفّتها السياسات الظالمة التي مارسها حزب البعث بحق الكرد منذ عقود، والتهرب من الاستحقاقات الوطنية التي تتطلب تمكين الشعب الكردي من ممارسة حقوقه القومية الطبيعية.
وتحت غطاء ذلك الوهم ضاعفت الشوفينية وتيرة التمييز والحرمان في المناطق الكردية مؤخراً، لتشهد مختلف دوائر ومؤسسات الدولة والقطاع العام تعريباً فاضحاً لوظائفها وإداراتها، مما يهدد بعواقب جسيمة، من شأنها مراكمة المزيد من حالة الاحتقان القائمة أصلاً وتعميق الشعور العام بالإحباط في الوسط الكردي، خاصة بعد أن تفاقمت حالة اليأس، ليس فقط من امكانية إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردي في سوريا، بل كذلك حتى من تنفيذ الوعود الصادرة من أعلى المستويات الرسمية بشأن حل قضية الإحصاء، مما يؤثر سلباً على متانة الولاء الوطني الكردي مع ما يعنيها ذلك من إشكالات وأضرار، ليس فقط على مصلحة الشعب الكردي، بل كذلك على الوحدة الوطنية التي تعني الجميع.

وانطلاقاً مما تقدم، فإننا لا نعتقد أن شعبنا سوف يغفر للسياسة الشوفينية ما زرعته في نفوس أبنائه من حقد حل محل التسامح الذي تميز به على الدوام، ومن انغلاق على حساب انفتاحه الواسع على المكونات السورية الأخرى، ومن تشاؤم بدأ يلف تطلعاته المستقبلية بدل التفاؤل بغد أفضل وآمال واعدة باتساع دائرة الأصدقاء وتزايد مساحة المتفهمين لعدالة القضية الكردية وازدياد عدد الساعين لتمتين أواصر التآخي العربي الكردي القائم على الشراكة الوطنية وعلى مبدأ التوازن بين الحقوق والواجبات وعلى تقدم الولاء للوطن لغيره من الو لاءات.
إننا أخيراً سنبقى محكومين بآمال التغيير الديمقرطي السلمي الذي يعني تغيير كل السياسات القائمة على القمع والتسلط والتمييز، بما في ذلك السياسة الشوفينية، الذي سيجد شعبنا أصدقاء آخرين من كافة مكونات الشعب السوري، يشاركونه التصدي لها وإلغاء مرتكزاتها وتطبيقاتها العنصرية، لأن في ذلك مصلحة سوريا وصيانة وحدتها وضمان تقدمها واستعادة مكانتها الحضارية.

* الجريدة المركزية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا(يكيتي)-العدد 159 تشرين الأول 2006

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…