نجاح هيفو
في سجل النضال الكردي، تبرز أسماء قليلة كتبت حضورها في وجدان الشعب لا بالحبر، بل بالفعل والموقف. من بين هذه الأسماء، يظل إسماعيل حمه علامة فارقة، ورمزًا للثبات والنزاهة والإخلاص، رجلًا حمل قضيته بصدق حتى آخر لحظة من حياته.
ولد في قرية تل ديك قرب الدرباسية، بين الحقول التي شكلت وعيه الأول، ونشأ محرومًا من الجنسية السورية، لكنه امتلك هوية أعمق من أي وثيقة رسمية: هوية الانتماء للأرض والشعب. منذ شبابه، خاض غمار العمل السياسي متنقلًا بين الأحزاب الكردية، باحثًا عن الطريق الذي يضمن الكرامة والحرية لشعبه.
لم يعرف الحزبية الضيقة، بل كان يؤمن أن وحدة الصف الكردي هي الطريق إلى أي نصر حقيقي. لذلك شارك في تأسيس المجلس الوطني الكردي عام 2011، ثم في إطلاق الهيئة الكردية العليا عام 2012، معتبرًا أن الخلاف السياسي يجب أن يبقى اختلافًا في الرأي لا عداوة بين أبناء القضية الواحدة. وكان يسعى دائمًا إلى تقريب وجهات النظر بين الأحزاب الكردية المختلفة، مذكّرًا الجميع بأن الهدف الأسمى هو خدمة الشعب الكردي وتحقيق حقوقه المشروعة.
كانت أفكاره السياسية متقدمة على زمنه: الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي كقومية ثانية في سوريا، منح الحكم الذاتي للمناطق الكردية، تثبيت اللغة الكردية لغة رسمية إلى جانب العربية، وبناء إدارة موحدة تضم جميع القوى الكردية دون إقصاء. هذه الرؤية جعلته مرجعًا فكريًا للعديد من الشباب السياسي الكردي، الذين رأوا فيه مدرسة متكاملة للنزاهة والقيادة.
إلى جانب السياسة، تميز إسماعيل حمه بإنسانيته العالية. آمن بالطاقات الشبابية، ورأى فيهم أمل الغد وقادة المستقبل، ودافع عن حقوق المرأة باعتبارها شريكة أساسية في نهضة المجتمع. كان نزيهًا في مواقفه، كريمًا في عطائه، رحيمًا بالفقراء، قريبًا من البسطاء يستمع لهم ويقف إلى جانبهم بلا تردد. كثير من رفاقه يذكرونه بأنه كان المرشد الذي يمنح النصيحة بلا تعالي، ويزرع الثقة في كل من حوله.
ولم يكتف بحمل هذه القيم في حياته العامة، بل أورثها لعائلته وأبنائه، الذين نشأوا على حب الوطن والإخلاص للقضية. أما زوجته الدكتورة سلالة عثمان، فكانت شريكته في النضال، واستمرت بعد رحيله في أن تكون صوته وضميره الحي، حافظةً لإرثه ومدافعة عن نفس المبادئ التي نذر عمره لها.
في 18 أغسطس 2016، رحل إسماعيل حمه إثر نوبة قلبية في القامشلي. لكن رحيله لم يطفئ جذوة أفكاره، بل زادها حضورًا؛ فأصبحت مرتكزات لأي مشروع سياسي كردي، وصارت النزاهة والوحدة والعدالة الاجتماعية التي آمن بها معيارًا يُقاس به صدق القيادات. ويؤكد رفاقه أن إرثه الفكري لا يزال يشكل أساسًا لكل المبادرات التي تهدف إلى وحدة الصف الكردي وتمكين الشباب والنساء.
اليوم، وبين ما يحيط بقضيتنا من تحديات وانقسامات، تبقى مدرسة إسماعيل حمه منارة للباحثين عن الحقيقة، ودليلًا لكل من يريد خدمة شعبه بصدق. الرجل الذي عاش كبيرًا ورحل كبيرًا، ترك لنا إرثًا لا يشيخ، ورسالة لا تنطفئ: أن الحرية والكرامة تستحق أن نحيا لها… وأن نموت من أجلها.