المقامة الكردية “في عبودية القطيع ..!”

اكرم حسين 
في زمنٍ صار فيه الصمت سياسة، والتصفيق موقفاً، والولاء لشخصٍ أهمُّ من الولاء لقضية، تتبدّى مأساة بعض القوى الكردية ، حيث يعلو الشعار القومي في النهار، وتهبط المواقف في الليل على موائد صغيرة، بين فنجان شاي ، ووعود عابرة.
 إنها ازدواجية ، بين القول والفعل، وانحدارٌ من العمل الجمعي إلى القطيعية، ومن الحلم بالتحرر إلى عبودية طوعية ، لأشخاص تحوّلوا إلى رموز اصطناعية ، على مقاس الولاء ، و فراغ العقول وضحالة الوعي.
يحكي أحدهم – من نسل ميزوبوتاميا ، حيث شرب من نهر دجلة – أنه دخل يوماً مضارب قومٍ من أهل الشمال، قيل إنهم ورثة الثورات وأبناء الشهداء، فإذا به يراهم على حالٍ ما عَهِدَهَا في حُرٍّ ولا رآها في ثائر. رأى فيهم زُهداً عن التفكير، وحرصاً على التبعية والتحمير ، حتى صارت أحزابهم بلا إرادة ، ومجالسهم بلا قيادة ، و أمرهم بيد رجل أو أكثر : إن نهض تحركوا، وإن قعد  تمددوا، وإن غضب احمرّت وجوههم، وإن رضي تبسمت شفاههم، وإن أخطأ، فتّشوا في القاموس عن أعذار ، وألقوا اللوم على الظروف والاقدار…!
يزعمون أنهم ضد التفرد، وهم أول من يصفق لهو ، ويهتفون للوحدة، وهم أوّل من يمزق الصف عند الخلاف. ينددون بالاستبداد، وهم أشد الناس حرصاً على هضم حقوق العباد ، وحين يسألون : “لماذا لا تختارو ىن قياداتكم ؟” يأتي  الجواب: “نخشى الانقسام”، وكأن ما هم فيه إلا انقسامٌ مُزخرف بالولاء الأعمى. وحين يقال لهم: “لكن الرموز إذا تحولت إلى أصنام، صار كسرها أوجب من تبجيلها”، رمقوك بنظرة المستنكر وكأنك قد مسّيت المستنصر ….!
 تتجلى سيكولوجيتهم القاتلة:في  لسانهم الذي  يتكلم عن الحقوق، ويدهم التي تُوقّع على التنازلات ، وعقلهم الذي  يرفع راية الوطنية، وقلبهم الذي  يدين بالولاء للشخص . حيث صفوفهم  متراصة في الاجتماعات، متنافرة عند ساعة العمل ، واخلاقهم نالت منها العلل؛ حتى صار الغياب عن الحق يُسمّى “تكتيكًا”، والخضوع يُسمّى “مرونة”، والصمت عن الباطل يُسمّى “حكمة”.
وهي ظاهرة ليست وليدة اليوم، بل هي نتاج تاريخ طويل من القمع وغياب التجربة ، حيث ترسخت عقلية “القائد المخلّص” مكان عقلية “المؤسسة والقانون” ،  وثمرة بنية تنظيمية جامدة تجعل الولاء للشخص عبادة ، والنقد خيانة ، والمساءلة مؤامرة ، وأخطر ما في الأمر هو العبودية الطوعية، التي لا تُفرض بالقوة، بل تُزرع في النفوس عبر الدعاية والخوف من الانقسام، واستدعاء صورة “الرمز الحامي” كلما اهتزت القناعة.
اليوم نحن أمام مشهد  مأساوي، يتراءى فيه القطيع وكأنه يسير بلا بوصلة، والراعٍ يصدح بشعاراتٍ دون أن يرفّ له جفن، والتابعون يُهللون بلا تفكير، وقد أسلموا ذواتهم قَطْعانَ في سوق العبيد، يبحثون عن أُنسٍ في ظلّ وهم، و أمانٍ في حقل لهيب.
النضال الحقيقي يبدأ من تصحيح الداخل، واستعادة الوعي، ورفض الاستعباد مهما كانت الأثمان، والمطالبة بقيادة شفافة ومسؤولة، تحكم بالقانون ، وتحترم الشريك لا القطيع.
لا حرية بدون ارادة، ولا كرامة بدون مساءلة، ولا وطن بدون اختلاف، بعيداً عن  طقوس الولاء الأعمى .؟
اللهم انّي قد بلّغت …!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…