د. محمود عباس
من مخرجات زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى دمشق، برزت جملة من المؤشرات السياسية والأمنية التي تكشف عن تحرك تركي منسق لإعادة ضبط مسار الأحداث في سوريا بما يخدم مصالح أنقرة، ويحدّ من أي مسعى وطني جامع قد يغيّر موازين القوى. ولربما هذه بداية ظهور الصراع المخفي إلى العلن، بين تركيا ومصالح أمريكا وفرنسا في سوريا والمنطقة العربية بشكل عام.
- تصعيد ممنهج في التهديدات الإعلامية، تجاوز حدود التحضيرات العسكرية التي تقوم بها المنظمات الإرهابية المنضوية تحت مسمى “الجيش الوطني السوري”. فقد تحولت المنابر الموالية لأنقرة إلى أدوات ضغط مركزة ضد قوات قسد، والشعب الكوردي، وجميع مكونات شمال وشرق سوريا، في رد مباشر على الرسائل الوطنية القوية التي خرجت من كونفرانس الحسكة وأزعجت الدوائر التركية وحلفاءها المحليين. هذا التصعيد لم يكن معزولًا، بل جاء كبداية مدروسة لتهيئة الأرضية السياسية والإعلامية لبقية الخطوات.
- التهديد المباشر بإلغاء حوارات باريس، وهو امتداد طبيعي للخطوة الأولى، إذا أرادت تركيا أن تقطع الطريق أمام أي تفاهمات محتملة بين الحكومة الانتقالية السورية والهيئة المنبثقة عن مؤتمر قامشلو وهيئة تمثل الإدارة الذاتية. كان من المفترض أن تمثل هذه الحوارات خطوة نحو حل سياسي شامل، فيما تبقى حوارات قسد كقوة عسكرية على مستويات أخرى مع حلفائها الدوليين. لكن عبر هذا التهديد، سعت أنقرة إلى إعادة خلط الأوراق، وإفراغ المسار من محتواه، وإبقاء زمام المبادرة بيدها.
- التحايل على مطلب النظام اللامركزي السياسي، وهو ما يفسر جزءًا من دوافع النقطة الثانية، فتركيا لا ترى في اللامركزية السياسية إلا تهديدًا مباشرًا لمصالحها، ولكيانها الجيوسياسي الداخلي، لذلك لجأت إلى طرح بديل شكلي هو “النظام اللامركزي الإداري”، وهو نفس الأسلوب الذي مارسه النظام البعثي لعقود عبر وزارة الإدارة المحلية، التي كانت في حقيقتها بلا سلطة أمام الأجهزة الأمنية. واليوم، يُعاد إنتاج هذه الخدعة عبر إعلام حكومة الجولاني وأصوات غارقة في الحقد والكراهية ضد الشعب الكوردي، بهدف احتواء مطالب المكونات السورية وتفريغها من جوهرها السياسي.
- تفعيل أدوات الترهيب الميداني، وهي النتيجة العملية لكل ما سبق، فحتى تصريحات توماس باراك، بما حملته من تنازلات صريحة لتركيا ودعم غير محدود لحكومة الجولاني، لم تُرضِ أنقرة، فدفعت بهاكان فيدان ليطرح خططًا لإسكات صوت المكونات المطالبة بالديمقراطية واللامركزية، إما عبر تحشيد خلايا داعش تحت غطاء تجمعات عشائرية، أو بتحريك وحدات من المنظمات التكفيرية التي تُعد من أكثر أدوات تركيا طاعةً ووحشية في تنفيذ مخططاتها داخل سوريا.
هكذا، تتضح خيوط المشهد كتحرك متكامل، حيث يخدم التصعيد الإعلامي غاية الضغط السياسي، ويبرر المناورات التفاوضية، ويمهد للترهيب الميداني، في إطار سياسة تركية لا تستهدف فقط تقويض الحراك الكوردي والإدارة الذاتية، بل وأي أفق وطني جامع يمكن أن يفتح الباب أمام نظام لا مركزي أو فيدرالي يحفظ وحدة سوريا ويصون تنوعها.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
10/8/2025