خوشناف سليمان
في الفراغ الذي خلفه انسحاب الدولة. لم تولد الحرية. بل ولد المسلح المتدين وهو يرفع شعار – الشرع قبل كل شيء – كان الصوت الأعلى في الساحة ليس للمطالبين بالعدالة. بل لمن اعتبروا العدالة طيفًا زائلًا لا يكتمل إلا بقطع الرؤوس.
كانت تلك المنظومة لا تبحث عن القانون. بل عن الغلبة. لا تريد الإنصاف. بل السجود. لم تأت لتبني مجتمعًا. بل لتصنع رعية. وفجأة. صار الكفن أكثر حضورًا من الدستور. وصارت الخيمة السوداء أكثر شرعية من البرلمان. وصارت الكلمة ممنوعة إلا إذا خرجت كصرخة تكبير في حضرة سيف مرفوع.
– حين ينهار القانون. لا تولد الشريعة. بل يولد الجزار .
لم يكن الشرع الذي نودي به في المدن التي هجرت منها الدولة شريعة بمعناها الفقهي أو العقدي. بل كان قناعًا لسلطة ترتجف من فكرة العدالة وتنتشي بفكرة الطاعة.
كل ما هو مشترك صار رجسًا. كل ما هو مدني صار ردة. كل من يحاول السؤال كان مشروع كافر. و حين لا يعود الإنسان حرًا في تأويل النص. يصبح النص سوطًا. والفتوى مشنقة. والمقدس بابًا للفرز والاصطفاء.
– الخوف الجديد.. ليس من الدولة . بل من ظلها.
الذين كانوا يخافون من فروع الأمن. صاروا يخافون من نوافذ الجوامع.
الذين كانوا يحذرون من التنصت على الهاتف. صاروا يهمسون في الدعاء خوفًا من الأمير الشرعي.
استبدلت القبعة العسكرية باللثام، لكن العيون بقيت حارسة للقمع.
و كان النظام يراقب. ويبتسم. فكلما ارتفع سيف الملثم. انهار الحلم المدني. وكلما ضجت الساحات بالتكبير. ماتت فكرة الوطن. هكذا. جرى نحر الثورة مرتين.. مرة بالرصاص. ومرة بالفتوى.
– المنابر التي تحولت الى محاكم . و المآذن التي تبث البلاغ رقم واحد.
لم يكن المسجد مكان عبادة فقط. كان منصة إعلان حرب. توزع فيه بيانات القتال. وتكتب على جدرانه قوائم الأعداء. كانت الخطب تقسم الناس لا إلى محسن و مسيء. بل إلى مسلم وكافر. مؤمن ومنافق. صالح ومرتد.
وفي تلك اللحظة. أصبح الدماء مادة النقاش وأصبح القتل مجازًا بلاغيًا مفضلًا. ليس هناك جريمة. بل تنفيذ حكم. ليس هناك سلب و نهب. بل غنيمة. صار كل شيء يغسل بماء الفتوى. ولا يعود للحق موطئ قدم.
– من السلطان الى القاضي..إعادة إنتاج القمع بلغة السماء.
الأنظمة كانت تحكم بالشعار الأمني.. – الدولة أولًا – وهؤلاء جاؤوا بشعار.. – الشرع أولًا – ولكن النتيجة واحدة..
• في الأولى. يقتل المعارض باسم الوطن.
• في الثانية. يقتل المختلف باسم الدين.
الآليات ذاتها.. محاكم سرّية. إعدامات بلا وجه حق. وصمت شعبي مطحون بالخوف.
الفارق الوحيد أن البزة العسكرية استبدلت بالقميص القصير. والكلاشينكوف ربط عليه راية سوداء.
– الهزيمة الكبرى .. حين يصبح المظلوم ظالما بأسم المقدس.
أسوأ ما جرى. ليس فقط في تمكين الوحش. بل في تحويل الضحية إلى جلاد باسم الحقيقة المطلقة. الذين عانوا من القمع. أصبحوا نسخة منه بلون آخر. الذين حلموا بالعدالة. أقاموا محاكم ميدانية بفتاوى مشبوهة. الذين هتفوا يومًا للحرية. صاروا يطاردون الفتيات في الأسواق. ويجلدون الصبية على البنطال.
هكذا تحولت الثورة من وعد بالخلاص إلى كابوس شرعي. وصار الناس يتذكرون فرع المخابرات بشيء من الحنين. مقارنة بفرع – (ديوان القضاء الإسلامي)
– لا قانون تحت عمامة تحكمها البندقية.
لا شرع حيث لا محامٍ.
لا عدالة حيث لا حق في الدفاع.
لا دين حيث لا يعلو صوت المظلوم على فوهة البندقية.
الشرع الذي لا يضع الإنسان في المركز. هو مشروع قتل مؤجل.
والثورة التي لا تدافع عن المختلف. هي تمهيد لاستبداد أسوأ
ان ما جرى في سوريا لم يكن مجرد فشل في إدارة مرحلة. بل كان انهيارًا تامًا في البوصلة الأخلاقية. وحين اختار البعض أن يواجه الدولة العميقة بدولة أعمق في القسوة. خسر الجميع. خسرنا الوطن. وخسرنا الحلم. وخسرنا أنفسنا في المرايا.
الذين رفعوا شعار – الله أكبر – في وجه القاتل. انتهوا وهم يسجدون لسيوفهم. والذين أرادوا تحرير الإنسان. نسوا الإنسان. و عبدوا النص.
فلا شرع يقام على الرماد. ولا حرية تولد من فوهة بندقية. مهما كان اسمها.