إسماعيل كاملة
يقول الأديب المصري توفيق الحكيم: “عندما يدخل الثور القصر لا يصبح ملكًا، إنما يتحول القصر إلى حظيرة”. هذه المقولة التي كُتبت قبل عقود، وكأنها وُلدت اليوم لتصف واقعنا مع أبي محمد الجولاني. فالمشكلة ليست في زخرفة الجدران ولا في هندسة القصور، بل في ساكنها؛ فإذا كان عقل القاطن عقل حظيرة، فلن يتحول إلى عقل قصر مهما ارتدى من ثياب أو أجاد التمثيل أمام الكاميرات.
لقد مرّ السوريون بتجربة مريرة مع الدكتاتورية العلمانية، التي حكمت البلاد بقبضة أمنية خانقة لعقود، وأغلقت كل نوافذ الحرية، ودفنت أي أمل في تداول السلطة أو بناء دولة مواطنة. لكن المأساة الكبرى أن سقوط هذا الصنم لم يؤدّ إلى انفتاح الأفق، بل أفسح المجال لصنم جديد، أكثر قسوة في بعض جوانبه، وأكثر رجعية في مشروعه. انتقل السوريون من دكتاتور علماني يرفع شعارات “التحديث” إلى دكتاتور إرهابي يرفع رايات “الخلافة” والجهاد المسلح.
كان أبو محمد الجولاني التجسيد الأوضح لهذه المأساة. بدأ كقائد جهادي في تنظيم القاعدة – فرع العراق، ثم أميرًا لجبهة النصرة في سوريا، فزعيمًا لتنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق، ثم قائدًا لتنظيم القاعدة فرع سوريا، وأخيرًا القائد الأوحد لهيئة أحرار الشام. لم تكن هذه التحولات مراجعة فكرية أو صحوة إنسانية، بل كانت تبديلًا للأسماء والشعارات بما يخدم مصالحه وأهدافه المرحلية. وحتى البدلة وربطة العنق التي ظهر بها لاحقًا لم تستطع أن تخفي عقليته القائمة على الإقصاء والقمع، ولم تمحُ إرثه الدموي.
في العقد الأخير، واجه المجتمع السوري أخطر أشكال التحالف بين السنية السياسية والسلفية القاعدية الجهادية. السنية السياسية هنا ليست مجرد هوية دينية، بل استراتيجية لتوظيف الدين في العمل السياسي من أجل السيطرة والحكم. أما السلفية الجهادية فهي تيار متشدد يرى في العنف المسلح وسيلة وحيدة لتحقيق أهدافه، ويعتبر كل من يخالفه مرتدًا أو عدوًا لله. وعندما يلتقي هذان التياران، تتشكل بيئة مثالية للتطرف، حيث يُلبس المشروع السياسي لباسًا دينيًا، ويُقدَّم القتل على أنه عبادة، وتصبح السلطة غاية مقدسة لا يجوز منازعتها، ويتراجع صوت العقل والحوار، وتختفي المساحات المشتركة بين أبناء الوطن.
لم يكن الصراع السوري شأنًا داخليًا بحتًا. دخول مقاتلين أجانب من آسيا الوسطى، وشمال أفريقيا، وأوروبا، وحتى من القوقاز، جعل النزاع يتخذ طابعًا عابرًا للحدود. هؤلاء جاؤوا بعقلياتهم ومفاهيمهم الخاصة، التي غالبًا ما تتصادم مع الثقافة السورية المتنوعة. بالنسبة لهم، سوريا ليست وطنًا له خصوصيته، بل ساحة معركة في “ملحمة كبرى” لا علاقة لها بآلام السوريين ومعاناتهم. ومع هذا التدفق تغيّرت ملامح الصراع، وصارت بعض الفصائل أداة لتنفيذ مصالح قوى خارجية، لا لحماية الشعب السوري أو تحقيق طموحاته.
ومن أبشع جرائم هذه الجماعات تعاملها الوحشي مع الطائفة العلوية والدروزية، من قتل وتعذيب وإعدامات ميدانية وحرق للقرى والمدن. لم يكن ذلك دفاعًا عن النفس أو ردًا على اعتداء، بل تجسيدًا لكراهية طائفية عمياء، غذّتها عقيدة تكفيرية تعتبر الانتماء المذهبي مبررًا لسفك الدماء. هذه الممارسات لم تقتل الأفراد فحسب، بل قتلت أي أمل في بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري.
قبل الحرب، كان المجتمع السوري – رغم استبداد النظام – نسيجًا متنوعًا يضم العرب والكرد، السنة والعلويين، المسيحيين والدروز، وغيرهم. لكن مع تصاعد العنف الطائفي، بدأ السوريون بالاحتماء بهوياتهم الضيقة، والانسحاب من فكرة الوطن الجامع. صارت الطائفة أو العشيرة أو الفصيل المسلح هي الملاذ الأخير، وتراجعت فكرة المواطنة التي تساوي بين الجميع.
إن استمرار هذا الانقسام لا يطيل أمد الصراع فقط، بل يجعل إعادة بناء سوريا مهمة أكثر تعقيدًا. فحتى لو توقفت المعارك غدًا، فإن آثارها ستبقى لعقود، في شكل كراهية متبادلة، وانعدام ثقة، وخوف من الآخر. ومع ذلك، يبقى الأمل معقودًا على الأصوات التي لم تلوثها الحرب، تلك التي تنادي بالسلام والمصالحة، وتؤمن بأن مستقبل سوريا لا يمكن أن يُبنى إلا على أساس العدل والاحترام المتبادل. لقد علّمنا التاريخ أن الطغاة يرحلون، لكن الشعوب تبقى، وأن القصور التي تحولت إلى حظائر يمكن أن تعود قصورًا إذا استعادها أصحابها الحقيقيون، وهذا يتطلب شجاعة الاعتراف بالأخطاء، وجرأة تجاوز الأحقاد، ورغبة صادقة في صنع وطن يتسع للجميع.
كاتب كردي سوري