بوتان زيباري
في قلب الشرق الأوسط، حيث التراب لا يزال يحمل رائحة الدم والوحل، وحيث الأفق يختنق تحت ثقل الدخان والوهم، تسير الشعوب كأنها أشباحٌ في متاهةٍ لا مخرج لها. لم تعد الثورات التي اندلعت عام 2011 تُقرأ كبدايةٍ لعهدٍ جديد، بل كنهايةٍ لحلمٍ كان يُظن أنه ممكن. لم تكن تلك الانتفاضات مجرد هزات سياسية، بل كانت صرخة جماعية من شعبٍ تعب من الانتظار، من الاستبداد، من الفقر، من التهميش. لكن الصرخة لم تُسمع كما ينبغي، أو بالأحرى، سُمعت بآذانٍ لا تعرف سوى قمع الصوت.
لقد دخلت المنطقة منذ 2003، ثم اشتدّ المدّ عام 2011، في مسارٍ جديدٍ لم يكن فقط تحوّلاً في موازين القوى، بل تفكّكاً في نسيج المجتمعات نفسها. إيران، التي بدت وكأنها المستفيد من الزلزال العربي، وجدت نفسها اليوم محاصرة، مضغوطة بين عداء داخلي وضغط خارجي. وإسرائيل، التي كانت تراقب بعين المُتفرّج، انقضّت على المشهد بعنفٍ لا يُقدَّر، كأنها تستعجل زوال كل ما هو عربي، كل ما هو مقاوم، كل ما هو إنساني. أما العالم العربي، الذي كان ذات يوم مركزاً سياسياً وفكرياً، فقد تبدّد. مصر، التي كانت قلب الأمة النابض، صارت تنظر إلى شعبها كخطرٍ داخلي. السعودية، التي حاولت أن تملأ الفراغ، فشلت في تحويل اليمن إلى حديقةٍ خلفية، وصارت صامتةً أمام مأساة فلسطين، كأن القضية لم تعد لها صلةٌ بكرامتها.
كل ذلك يرسم مشهداً لا يشبه الثورات، بل يشبه الانهيار. لم تُنتج الانتفاضات ديمقراطية، بل أنتجت فراغاً. لم تُسقط الاستبداد، بل استبدلت شكلاً بآخر أكثر قسوة. في العراق، تحوّل التماسك الاجتماعي إلى هشاشة، وصار السُّنّة كأنهم لم يكونوا. في سوريا، لم تبدأ الطائفية مع الأسد الجديد، بل كانت متجذّرة منذ السبعينات، لكنها اليوم تسير نحو ما يشبه الإبادة الجماعية. لم تعد الثورات دعوة للحرية، بل صارت مادةً لتصنيع المزيد من العنف، المزيد من التشرذم.
ومن هنا، يبرز سؤالٌ مُحطم: لماذا لم تُثمر الانتفاضة عن شيء؟ لماذا لم تُنتج نُخباً جديدة، أفكاراً جديدة، حركاتٍ جديدة؟ لأن الشعوب لم تكن فقط تُقاوم الاستبداد، بل كانت تقاوم ثقافة الموت التي تسري في عروقها منذ عقود. ثقافة ترى في الحرب وسيلةً وحيدةً للهوية، في الشهادة نهايةً مُشرّفة، وفي الدمار تعبيراً عن الوجود. هذه الثقافة، التي يُمكن تسميتها “ثقافة التناطوس” – أي عبادة الموت – لم تُهزم بالثورة، بل استفادت منها. فحين ينهار النظام، لا يظهر البديل الديمقراطي، بل يظهر الميليشيا، والسلطة المسلحة، والتنظيم المتطرف.
الذين انتفضوا عام 2011 لم يكونوا فقط ضحايا الفقر والاستبداد، بل ضحايا تراكمٍ فكريٍّ واجتماعيٍّ عميق. لم يكن لديهم أدوات التنظيم، ولا مشروعٌ بديل، ولا حتى لغةً مشتركةً تجمعهم. كل ما كان لديهم هو الغضب. والغضب، مهما كان مشروعاً، لا يُبنى عليه وطن. وحين بدأت الحركات تتهاوى، وظهرت الجماعات المتطرفة، لم يكن ذلك مفاجأة، بل كان حتمية. ففي فراغ السلطة، لا يُملأ الفراغ بالديمقراطية، بل بالسلاح. كما قال ابن خلدون: حين تضعف الدولة، ينتقل الابتكار إلى الهوامش، إلى من يملكون السلاح، وإن كانوا أقل عدداً، وأقل شرعية.
تونس، التي كانت نموذجاً للربيع العربي، صارت اليوم مثالاً على تراجع الحلم. البرلمان يُنتخب بمشاركة 11% من الشعب، والنقابات والحقوق التي كُسبت تُستعاد ببطء. في العراق، سقطت مدنٌ بحجم الموصل دون مقاومة، ليس لأن الجيش ضعيف، بل لأن المجتمع قد تفكّك من الداخل. لم يعد هناك شعورٌ بالانتماء، ولا إرادةٌ جماعيةٌ للدفاع. وحين تنهار هذه الإرادة، يصير المئات من المسلحين قادرين على احتلال مدنٍ ملايينها. هذا ما حدث في مالي، وهذا ما يمكن أن يحدث في أي مكان.
ووسط هذا التصدّع، تظهر الجماعات الإسلامية، ليس كحلٍّ، بل كأعراضٍ للمرض. الإخوان المسلمون، الذين حاولوا الظهور كبديلٍ مدنيٍّ، فشلوا ليس فقط لأنهم لم يُعطوا لهم فرصة، بل لأنهم لم يفهموا أنفسهم، ولم يقرأوا مجتمعاتهم. اعتقدوا أنهم يستطيعون تغيير واقع مُعقّد بالدعوات والمساعدات، لكنهم لم يقدروا على بناء نموذج مستدام. وحين حاولوا اللجوء إلى القوة، فقدوا شرعيتهم. أما الجماعات الأكثر تطرّفاً، كالقاعدة وداعش، فلم تكن حركات دينية، بل كانت تعبيراً عن يأسٍ وجودي، عن رغبةٍ في التدمير كوسيلةٍ للهوية. داعش لم تُبنى على فكرةٍ، بل على فراغ. لم تكن قوةً عسكريةً فقط، بل كانت رمزاً لانهيار الدولة والمجتمع معاً.
لكن ما يثير القلق الأكبر هو أن هذه الجماعات لم تُهزم. الدولة الإسلامية قد سقطت، لكن ديناميكيات ولادتها لم تمت. ما زال هناك فقر، تهميش، تفكك اجتماعي، وغياب للهوية. طالما بقيت هذه العناصر، فستبقى الأرض خصبةً للإحياء. بل إن بعض القوى الدولية، التي كانت تُدين الإرهاب بالأمس، باتت اليوم تنظر إليه بعين التفاوض، بل والتحالف. في سوريا، هناك من يرى في الجماعات المتطرفة حلاً لوقف الفوضى، أو على الأقل أداةً للضغط. لكن هذا تفكير قصير النظر. فالفوضى لا تُوقف بالفوضى، بل تُغذيها.
وفي وسط هذا الكابوس، تظهر .كوردستان كظاهرةٍ مختلفة. ليس لأنها نجحت، بل لأنها تحاول. في روجآفا، في إقليم .كوردستان العراق، في مناطق التواجد الكوردي في إيران وتركيا، هناك حراكٌ يحاول أن يجمع بين الهوية والديمقراطية، بين التمرّد والتنظيم. هناك اعترافٌ بالتنوع، بالمرأة، بالمشاركة. هناك محاولة لبناء مجتمعٍ لا يقوم على الاستبداد، ولا على الطائفية، ولا على التهميش. لكن هذا الحلم لا يزال هشّاً. فما بين الأحزاب الكوردية من خلافات، وما بين الدول المحيطة من ضغوط، يُبقي المشروع في حالة ترقّب. لا أحد يعلم ما إذا كانت هذه اللحظة ستُبنى عليها دولة، أم ستُمحى ككل الحلم العربي.
السؤال الأكبر اليوم ليس عن البديل، بل عن إمكانية البديل. هل يمكن لشعوب منهكة، متعبة، مُذلّة، أن تُنتج فكرةً جديدة؟ أن تُعيد تخيّل ذاتها؟ أن تُعيد بناء عالمها من الداخل؟ الجواب ليس في النخب، ولا في الزعماء، ولا في القوى الخارجية. الجواب في الشارع، في المدرسة، في الحي، في المرأة التي ترفض الصمت، في الشاب الذي يرفض الهجرة، في الفنان الذي يرفض الكذب. لأن الديمقراطية لا تُستورد، ولا تُفرض، بل تُبنى يوماً بعد يوم، في العادات، في العلاقات، في طريقة النظر إلى الآخر.
العالم العربي اليوم ليس في حاجة إلى ثورات جديدة، بل إلى إحياءٍ داخلي. إلى اعترافٍ بالتنوع، بالهشاشة، بالألم. إلى لغةٍ جديدة تُخرج الإنسان من حالة التمرد الوجودي إلى حالة البناء. إلى مشروعٍ يُعيد للحياة معناها، لا أن يجعل من الموت مهنة. قد يبدو هذا بعيد المنال، لكنه ليس مستحيلاً. فحتى في أشد الأزمات، تبقى هناك بصيصات. في فيلم، في أغنية، في احتجاج صغير، في لقاء بين شابين من طائفتين مختلفتين. هذه هي البذور. ليست قوية، لكنها حية.
وإذا كان المستقبل لا يُبنى على التفاؤل، فإنه لا يُبنى على اليأس. فاليأس هو أخطر سلاحٍ في يد الاستبداد. أما الأمل، فليس وهمًا، بل عمل. عمل يومي، متواضع، لكنه مستمر. لأن الشعوب لا تموت، حتى حين تُدفن. تظلّ تحت الرماد، تنتظر لحظةً تُشعِل فيها النار من جديد. ربما ليست هذه اللحظة، لكنها قد تكون الطريق إليها.
السويد
07.08.2025