في مواجهة حملة التجني صلاح بدر الدين ومسيرة نصف قرن من النضال

حوران حم
في زمنٍ عزَّ فيه الوفاء، وكثرت فيه الأقلام المرتجفة والألسنة المأجورة، لا يثير الاستغراب أن تُشوَّه صور المناضلين، وأن يُكال لهم السباب بدل التكريم، خاصة أولئك الذين نذروا أعمارهم لقضية شعبهم، وبقوا على العهد رغم خيانات الأقربين قبل الأعداء. وما الهجمة الأخيرة على الأستاذ صلاح بدر الدين، إلا نموذج فجّ لهذا النمط من النكران، والابتذال في الخطاب، ومحاولة طمس الذاكرة الجمعية لحركتنا الكردية.
إن وصف مناضل بحجم صلاح بدر الدين بـ”الدكتاتور”، لا يعكس فقط جهلاً بالتاريخ، بل هو عدوان سافر على قيم شعبنا وذاكرته النضالية، وإهانة لآلاف الرفاق الذين واكبوا التجربة، وشاركوا في صوغ معالمها. فالرجل، الذي قاد العمل القومي الكردي في سوريا في أحلك الظروف، لم يكن يوماً طامحاً لمنصب أو زعامة، بل سعى لتأسيس مدرسة فكرية سياسية كردية مستقلة، تجذّرت في مؤتمر الخامس من آب 1965، وترسّخت مع مرور الزمن كمحطة مفصلية في الوعي السياسي الكردي السوري.
حين تتحول التجربة إلى تهمة!
من السخرية بمكان أن يُحمّل الأستاذ صلاح بدر الدين مسؤولية تراجع أو انحرافات حدثت بعد انسحابه الطوعي من العمل الحزبي عام 2003، رغم أنه أوضح بالأدلة والسياق السياسي والذاتي دوافع هذا القرار، وأصر على التمييز بين العمل الحزبي والعمل القومي، مستمراً في دوره كمثقف ومرجعية فكرية وسياسية. فهل المطلوب أن لا يتقاعد المناضلون؟ أن لا يسلموا الراية للجيل الجديد؟ أم أن كل من غادر موقع المسؤولية بات متهماً حتى تثبت براءته؟!
ثم إن العودة إلى مصطلحات مثل “الدكتاتورية” تكشف خواء فكرياً لدى أصحابها، إذ لا يستقيم استخدام هذه التوصيفات في بيئة حزبية سرية، مطاردة، لا تملك سلطة على قرية، فضلاً عن مدينة أو إقليم! فهل كان يمارس “دكتاتوريته” من غرفة متواضعة في بيروت، مهدداً بالاغتيال، متنقلاً كل عدة أشهر؟ وعلى من؟! على حزب يعيش في السر، وفي ظروف تشبه المستحيل؟!
إن تجربة حزب الاتحاد الشعبي – المدرسة التي انبثقت عن مؤتمر آب – ليست بحاجة إلى الدفاع، فهي ثابتة في ذاكرة كل منصف. هذه التجربة التي أنتجت خطاباً ديمقراطياً متقدماً منذ الستينات، وتبنت نهج التعددية، والارتباط العضوي بين النضال القومي والوطني، ورفضت التبعية لأي محور خارجي، كانت سابقة لعصرها. ويُحسب لصلاح بدر الدين – بصفته قائداً ومفكراً – أنه لم يقدّم الحزب كأداة سلطوية، بل كوسيلة لتحقيق أهداف شعبه، وهو ما أكده مراراً: “قد يزول الحزب، لكن النضال سيستمر”.
الذين يتطاولون اليوم على صلاح بدر الدين، ليسوا من الجيل الذي عاش التجربة، ولا ممن قدّموا تضحيات جديرة بتمكينهم من النقد أو المراجعة. هم، بكل بساطة، يعيشون على فتات ذاكرة لم يصنعوها، ويتكئون على سمعة حزب لم يبنوه، ويبحثون عن شماعة يُعلقون عليها إخفاقاتهم، وانحرافاتهم، وانسلاخهم عن المبادئ. والأنكى من ذلك أنهم يعيبون على الرجل انسحابه الطوعي، ويصفونه بالدكتاتور في الوقت نفسه! فهل من تناقض أوضح من هذا؟!
وفاءً للتاريخ لا للأشخاص
إن الدفاع عن صلاح بدر الدين، ليس موقفاً شخصياً، بل هو دفاع عن ذاكرة نضالية جماعية، عن رجل لم يتاجر بقضية شعبه، ولم يساوم، ولم يركض وراء سفارات أو مناصب، بل بقي وفياً لقضية التحرر الكردي، ولمشروع وطني سوري ديمقراطي. وإذا كان البعض لا يجد لنفسه مكاناً في هذا الإرث، فذلك لا يُبيح له العبث به، أو الطعن في رموزه.
 الأستاذ صلاح ليس معصوماً من الخطأ، وهو ذاته من اعترف وراجع وقوّم، ولكن من غير المقبول أن يُختصر نضاله في تهم جوفاء، أو أن يُدان لأنه انسحب بكرامة، في وقت تهافت فيه آخرون على الولائم السياسية. فمن لا يملك رصيداً في ذاكرة النضال، عليه أن يصمت أمام من خدم شعبه أكثر من خمسين عاماً، وترك بصمته على واحدة من أعرق التجارب السياسية الكردية في سوريا.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…