عبداللطيف محمد أمين موسى
إن غياب التشاركية في شكل الحكم وإدارة السلطة والنفوذ، وكل مفاصل الحياة بين السلطة الانتقالية في دمشق وباقي مكونات الشعب السوري، يُعدّ من أهم العوائق في بناء سورية الحديثة. كما أنه يهدد المجتمع السوري المبني على التنوع الثقافي والديني والعرقي، من خلال عملية فقدان الثقة، وإحجام هذه المكونات عن المشاركة في السلطة وتركها منفردة تتخبط في مواجهة التحديات والعوائق أمام بناء سورية ديمقراطية تعددية يتشارك فيها الجميع السلطة وإدارة النفوذ والثروات.
لا يُخفى أن التحول الاستراتيجي المتمثل في عملية تحرير سوريا من هيمنة نظام البعث وسلطة بشار الأسد، جاء نتيجة التوافقات والتقاء المصالح وتفاهمات غير خافية بين الدول الإقليمية والعالمية، وعلى وجه الخصوص تركيا التي صرحت مراراً وتكراراً بأنها قادت هذا التفاهم حول تسليم السلطة في دمشق إلى السلطة الانتقالية بعد الثامن من ديسمبر، مع اليوم الثاني من سقوط نظام الأسد. لذا، فإن خروج السلطة الانتقالية في سوريا عن هذه التفاهمات ومعاداتها للخطوط العريضة المحددة من قبل الدول الإقليمية والعالمية، والاكتفاء بالأقوال دون الأفعال، والإصرار على نهج الصبغة واللون الواحد والشمولية والإقصاء والتفرد في السلطة والحكم، سيكون بمثابة الكارثة والاستهتار بمستقبل سوريا. هذا الأمر سيؤدي إلى ربط مصير الشعب السوري بمزيد من الضغوط وتفكك بنية المجتمع، والأخطر من ذلك حالة فقدان الثقة بين الأقليات والمكونات والسلطة الانتقالية، والتي بدأت بوادرها بالظهور من خلال ما رافق أحداث الساحل والسويداء وعمليات القتل.
تتمثل ظاهرة فقدان الثقة وغياب التشاركية بين السلطة الانتقالية في دمشق وباقي مكونات الشعب السوري في عملية التهميش والإقصاء، والإصرار على مركزية القرار في إدارة سوريا، بعيداً عن منطق الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، وبما يتناقض مع مبادئ الثورة السورية التي شاركت فيها كل المكونات السورية القتل والتهجير وحملات الاعتقال والتعذيب والطموح والأمل في الديمقراطية.
إن فقدان الثقة وغياب التشاركية بين السلطة والأقليات والمكونات في سوريا تعود إلى جملة من العوامل، منها الداخلية التي اتخذتها السلطة الانتقالية على مدار الشهور السبعة من عمر سوريا ما بعد التحرير، وكذلك عوامل خارجية نتيجة عجز السلطة الانتقالية في القراءة الصحيحة لصراع المصالح التي تتعرض لها المنطقة ككل وسوريا على وجه الخصوص. ويشمل ذلك الصراع على النفوذ والسلطة بين الدول الإقليمية والعالمية، ودخول هذه السلطة في مراهنات على دول إقليمية دون أخرى، الأمر الذي أحدث ارتباكاً في إدارتها لملف الحكم والأقليات وإجراءات المرحلة الانتقالية في سوريا.
تُعد إجراءات السلطة الانتقالية في دمشق من أهم العوائق التي عززت حالة انعدام وضعف الثقة بين السلطة والأقليات، وتتمثل في التراخي بالخطوات البطيئة التي اتخذتها الحكومة في عدم الاستجابة لحقوق الأقليات والإصرار الواضح على تهميشها، وغياب المبادرة الحقيقية في الانفتاح على المكونات، وانغلاق السلطة على الدائرة الضيقة ذات اللون والصبغة الواحدة في حكم سوريا.
الأمر الآخر الذي عزز حالة انعدام الثقة بين الأقليات والمكونات والسلطة الانتقالية في سوريا هو حالة التجاهل والتحايل لدى السلطة في دمشق، وعدم استجابتها لكافة النصائح والمشاورات والتوصيات والطلبات الدولية لحماية الأقليات وضمان حقوقها ومشاركتها في السلطة والقرار والنفوذ لبناء دولة ديمقراطية تعددية. وعلى العكس من ذلك، قامت السلطة بالتعنت والإصرار على مواقفها في التهميش وتكريس مفهوم المركزية، من خلال إجراءات شكلية متمثلة في مؤتمر الحوار الوطني المنعقد في دمشق، والذي غاب عنه الممثلون الحقيقيون للمكونات والأقليات، وكذلك تشكيل الحكومة الحالية التي اقتصرت على اللون والصبغة الواحدة دون مراعاة التمثيل الحقيقي للمكونات. كما شملت الآليات غير السليمة لتشكيل المؤسسات، ولا سيما الجيش والقوى الأمنية السورية، ما عزز حالة الفصائلية وعجز السلطة عن إنهاء حالة المليشيات والتشدد وعدم القدرة على إبعاد الفصائل الأجنبية والمتشددة من غير السوريين عن المناصب القيادية في هيكلية الجيش والقوى الأمنية، على حساب المشاركة الحقيقية للأقليات والمكونات السورية، مما خلق وعزز حالة الشرخ وعدم الثقة بين السلطة والأقليات.
إن ربط السلطة لقراراتها التي تحدد مصير الدولة السورية وحقوق المكونات والأقليات بالأجندات الإقليمية والدولية، كان من أهم الأسباب التي عززت غياب التشاركية. ويتجلى ذلك في مصادرة قرار السلطة والتدخل التركي الصريح في القرارات والخطوات المتعلقة بمصير الدولة السورية، ومحاولاته المتكررة فرض إملاءات على السلطة عبر الإصرار على بسط السيادة والمركزية، وعدم قبول اللامركزية تحت مسميات تفتيت الدولة. وقد خضعت السلطة في دمشق لهذا النهج بعدم الاستجابة لمبادرات الوفد الكردي المشترك، والإصرار على حل ودمج قوات سوريا الديمقراطية مع قوات السلطة، ورفض التعاطي مع الخصوصية الدرزية في السويداء، وربط المسألة العلوية بقضية محاسبة الفلول، واتهام الأقليات المتكرر بالعمالة والخيانة عبر الارتباط والولاء للخارج. كما ارتبطت قرارات السلطة بالانحياز لأحد أطراف الصراع التركي الإسرائيلي على سوريا، مما دفع بعض الأقليات للتفكير في الاستقواء بالخارج لضمان وجودها، ولا سيما بعد مجازر الساحل والسويداء وعمليات القتل والتطهير العرقي، وعجز السلطة في إيجاد التوازن بين الصراع العربي التركي على النفوذ في سوريا، وربط الحل العسكري للدخول إلى السويداء بمباحثات السلطة وإسرائيل في أذربيجان، واستغلال الانفتاح الدولي لفرض السيطرة العسكرية على حساب حقوق الأقليات.
إن إحساس الأقليات والمكونات بالتهميش والتجاهل من قبل السلطة في دمشق يُعدّ من الأسباب الرئيسية في تكريس حالة فقدان الثقة وغياب التشاركية، وذلك عبر تهميش السلطة لمنظمات المجتمع المدني والنخب السياسية والأكاديمية لدى الأقليات والمكونات في سوريا، واعتمادها على الصبغة الواحدة التي تناسب مصالحها وأيديولوجياتها.
في المحصلة، يمكن القول إن عملية بناء سوريا الحديثة تتطلب من السلطة الانتقالية اتخاذ الكثير من الإجراءات والخطوات السريعة التي تساهم في إعادة الثقة، وخلق التشاركية الحقيقية من خلال استيعاب كافة مكونات الشعب السوري لضمان التمثيل الحقيقي لكل أطياف الشعب السوري في المشاركة وبناء سوريا الحديثة الديمقراطية التعددية، وضمان حقوق الأقليات والمكونات وفق الاستحقاقات الدستورية، وإزالة كافة عوامل فقدان الثقة وغياب التشاركية والإحساس بالتهميش، بما يقود سوريا نحو الأمن والأمان والبناء والاستقرار.