ثقافة القطيع!!!

علي جزيري

جاء في حكاية طريفة رواها الكاتب الفرنسي “فرانسوا رابليه”: سافر “بانورج” ذات يوم في رحلة على متن سفينة، وصدف أن كان على متنها تاجر الأغنام “دندونو” الجشع وقطيع خرافه. دبَّ خلاف بينهما في شأن ما، فصمم بانورج الانتقام من غريمه، وقرر بينه وبين نفسه شراء خروف منه بأي ثمن، بيد أن دندونو استغل الفرصة، وباع الخروف بسعر باهظ، رغم ذلك وافق بانورج كي يُمرّق مكيدته، فانفجرت حينئذٍ أسارير دوندونو عقب تلك الصفقة.

     أمسك بانورج بقرني خروفه خلسة، وجرّه إلى حافة السفينة، ثم ألقاه في اليم، فتبعه خروف آخر تلقائياً، ولحق به ثان وثالث ورابع، ثم سائر الخراف راحت تتدافع في طابور مهيب، وألقت بنفسها في البحر إثر ذلك. حينئذٍ جنّ جنون دندونو، فمقاومته لم تُجدِ نفعاً في ثنيها عن طبعها الحيواني، وتسنّى له أخيراً الإمساك بتلابيب الخروف الأخير، لكن الخروف تمكّن أخيراً أن يلقي بنفسه في الماء، فسقط كلاهما (الخروف ودندونو) وغرقا.

     وشاعت عبارة “خرفان بانورج”، وصار الناس يردّدونها منذ ذلك اليوم في اللغة الفرنسية، وتعني إصطلاحاً انسياق الجماعة بلا وعي أو إرادة وراء آراء وأفعال الآخرين، بوحي من “ثقافة القطيع”…!

     توحي الحكايةُ السالفةُ الذّكر، كيف تفشت مثل هذه الثقافة في ظل الأنظمة المستبدة. فلو اتّخذنا سوريا أنموذجاً على هذا الصعيد، لوجدنا كيف سلكت شرائح واسعة طباع الحيوان، بعد أن انتهج النظام سياسة تقوم على “حيونة الإنسان” وفق تعبير الكاتب الراحل «ممدوح عدوان»، جرّاء هاجس الخوف من الأجهزة الأمنية المرعبة، التي شيّدها الطاغية، والتي كانت تحصي على الناس أنفاسها عن طريق عملائها المبثوثين في كل مكان، لذا اعتاد الناس غض الطرف عن السلبيات – وما أكثرها – اضطراراً، والتهافُت على تلميع السلطة وتبرير تصرفاتها وتشويه الحقائق، وكأن البلاد جنة عدن.

     فحين يكون الخوفُ هو سيّد الموقف، تغيب حرية التعبير، ويسود الرياء والولاء الكاذب، والتماهي مع منطق الحاكم وكيل المديح له، وترويج “نظرية المؤامرة” وتخوين الرأي الآخر بأي ثمن، وتمضي الجماهير في التصفيق لمن يتربّع في قمة الهرم، في “انتصاراته” وفي هزائمه، وتقوم باجترار ما تردده وسائل اعلام النظام، وتعلن “الولاء للقائد” دون تردد، مما تسبب الأمر في تمكن النظام من السيطرة على الجماهير عبر المنظمات التي أشادها. لذا، تفشى الفساد في كافة قطاعات الدولة بما فيها الأمن والجيش، كما جرى إفساد ممنهج للقوى السياسية المنضوية في إطار ما كانت تُسمّى (الجبهة الوطنية التقدمية)، ناهيك عن النقابات والمنظمات الجماهيرية.

     فكان طلبة المدارس مثلاً، يتهافتون قسراً أو طوعاً للانتساب إلى شبيبة الثورة أو حزب البعث، ويشاركون في المسيرات المؤيّدة للنظام، والاحتفاء بالمناسبات (الوطنية والقومية) التي تقررها القيادة دون تفكير، إما خوفاً أو بدوافع وصولية، كالرغبة في تلقّي علامات الشبيبة التي تضاف إلى مجموع العلامات فتؤهلهم للانتساب إلى فرع جامعي، أو بهدف التوظيف في المستقبل وتسنُّم مناصب إدارية.

      بعد فرار الطاغية، برزت شرائح جديدة من المكوّعين، سواءً في الموالاة، أعني ممّن كانوا يسبحون بحمد الطاغية حتى الأمس القريب أو في المعارضة التي تنصلت من ماضيها الأسود… وراحت الفئتان تستميتان في مداهنة السلطة الجديدة.

===========

صحيفة كوردستان – العدد 757

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…