سوريا بين شبح الحرب الأهلية وحلم اللامركزية: حين تتكرّر المجازر وتفشل الدولة

أزاد فتحي خليل *

في المشهد السوري المنهك، تتكرّر الجرائم، وتتوسّع المجازر، دون أي مؤشرات على أن هناك من يتعلم من التاريخ القريب. سوريا اليوم تعيش حالة “اللا-دولة” بامتياز، ليس فقط في غياب السلطة المركزية القادرة على حماية مواطنيها، بل أيضاً في تفكّك المنظومة الأمنية – السياسية التي كانت تدّعي الحفاظ على الاستقرار. آخر فصول هذا الانهيار هو ما جرى ويجري من مجازر متلاحقة، بدأت من الساحل السوري، مروراً بمحافظة السويداء، وليس انتهاء بتهديدات علنية تطال الكورد في شمال شرق البلاد، وكل ذلك تحت إدارة سلطة أمر واقع جديدة برئاسة أحمد الشرع – الملقّب سابقاً بالجولاني.

مجازر الساحل السوري: الإبادة بصمت

في مناطق الساحل السوري، تحديداً في ريف اللاذقية وطرطوس، جرت خلال الأشهر الماضية مجازر دموية بحق أبناء الطائفة العلوية، الذين طالما اعتبروا أنفسهم بمأمن من رياح التغيير السياسي أو الانتقام الطائفي. غير أن الواقع كان أكثر قسوة مما تصوّره الكثيرون. آلاف القتلى، معظمهم من المدنيين، سقطوا في عمليات إعدام ميداني، وذبح جماعي، وتمثيل بالجثث، وحرق للممتلكات والقرى، حتى باتت بعض المناطق خالية تماماً من سكانها.

الجرائم كانت موثقة بالصوت والصورة، وعرضت عبر قنوات مرتبطة بالسلطة الجديدة، أو سُرّبت عبر جهات دولية، لتكشف للعالم مدى التوحّش والانحدار الذي وصلنا إليه. لم يكن ما جرى مجرد فوضى انتقامية، بل عمليات منظمة نفذتها مجموعات مسلحة محسوبة على سلطات أحمد الشرع، بذريعة “تطهير المناطق من الخلايا البعثية أو الموالية للنظام السابق”.

لكن السؤال الذي تكرّر في أذهان السوريين: لماذا يُعاقَب أبناء طائفة بأكملها على ذنب لا يعرفون عنه شيئاً؟ وهل باتت الهويّة الطائفية أو الموقف السياسي مبرراً للقتل الجماعي والتنكيل؟

السويداء تدفع الثمن: 1400 قتيل ومدينة محاصرة

بعد مجازر الساحل، جاء الدور على محافظة السويداء، معقل الطائفة الدرزية في الجنوب السوري. في واحدة من أفظع المآسي التي شهدتها البلاد منذ بداية الثورة، شنّت قوات تابعة لحكومة الشرع – مدعومة من ميليشيات أمنية ومجموعات متطرّفة – هجوماً واسعاً على المدينة وقراها، أسفر عن مقتل أكثر من 1400 مدني ومسلّح من أبناء السويداء، خلال أيام معدودة.

العملية، التي بُرّرت بأنها “حملة لاستعادة هيبة الدولة”، كانت في حقيقتها انتقاماً مباشراً من موقف السويداء الرافض للخضوع لسلطة الجولاني، والتي طالبت مراراً بإدارة محلية مستقلة، وحماية أمنية من خلال أبنائها، ورفضت عسكرة الحياة المدنية أو التبعية الكاملة لجهات خارجية.

اللافت في هذه المجزرة أن الهجوم لم يتوقف إلا بعد تدخل عسكري إسرائيلي استهدف مقار هيئة الأركان ومراكز أمنية وعسكرية في دمشق ومحيط السويداء. وهنا، لا بد أن نسأل: هل بات السوريون بحاجة لضربات خارجية كي ينجوا من بطش حكومتهم؟ وهل هذه دولة، أم مجرد سلطة تتعامل مع المدن بوصفها مناطق تمرد يجب قمعها بالقوة؟

تهديد الكورد: الحلقة التالية في مسلسل الترهيب

لم تتوقّف النزعة العدائية لحكومة الأمر الواقع عند مجازر الساحل أو السويداء، بل انتقلت إلى التهديد الصريح والمباشر للمكون الكوردي في شمال شرق سوريا. عبر منابر إعلامية دينية وأمنية، بدأت تُبث خطابات تعبئة وتحريض على الكورد، ووصمهم بالخيانة والانفصال، والترويج لاحتمال “اجتياح المناطق الكردية وإخضاعها”، تحت ذريعة “الوحدة الوطنية”.

هذه الخطابات الخطيرة تعيد للأذهان كل الكوارث التي عاشها السوريون منذ بداية الثورة، حين تحوّل كل مختلف عن السلطة إلى عدو محتمل. وبدلاً من الاعتراف بالتنوع القومي واللغوي والثقافي، يتم استخدامه كذريعة لبث الفتنة وتبرير الاجتياح والقتل الجماعي.

الكورد، الذين أسسوا خلال السنوات الماضية نموذجاً سياسياً في الإدارة الذاتية، رغم العوائق والضغوط الإقليمية والدولية، باتوا اليوم في دائرة الخطر، ليس فقط من تركيا أو بقايا النظام، بل أيضاً من سلطة الأمر الواقع التي تمارس ما يشبه إعادة تدوير الديكتاتورية باسم الدين أو الثورة.

انهيار الثقة وسخط الشارع: النهاية تقترب

ما يجمع بين كل هذه الأحداث هو شيء واحد: فقدان الثقة الكامل بحكومة أحمد الشرع. لم تعد الجماهير تُصدّق خطاباته، ولا ترى فيه منقذاً، بل بات يُنظر إليه كنسخة جديدة من الاستبداد، ترتدي عباءة الشرعية الثورية، وتمارس القمع باسم الحفاظ على وحدة البلاد.

على منصات التواصل الاجتماعي، تتصاعد موجات الاستهجان والغضب، من مختلف المكونات السورية. العلويون يرون أنفسهم ضحايا لا حماة. الدروز يشعرون بالخيانة والخذلان. الكورد يتوقعون الأسوأ، ودمشق تغلي تحت وطأة الأزمات الأمنية والاقتصادية والتضييق على الحريات.

المظاهرة الهزيلة التي خرجت مؤخرًا في ساحة الأمويين دعماً للشرع لم تكن سوى انعكاس مباشر لهذا الواقع؛ بضع مئات تم حشدهم قسراً، وسط لامبالاة شعبية كاملة، في العاصمة التي كانت تاريخياً مركز السلطة والسياسة.

ما الحل؟ اللامركزية والحوار أو الانفجار الشامل

إن الاستقواء بالسلاح، والتخوين، والحديث بلغة واحدة فوق الجميع، لن يحقق استقراراً، ولن يؤسس دولة. ما تفعله حكومة أحمد الشرع اليوم ليس إلا تكراراً مأساوياً لأخطاء النظام الذي أسقطته الثورة. والواقع يقول إن سوريا لا تُحكم بالقوة، بل بالحوار، والتفاهم، وبناء الثقة بين المكونات، والاعتراف بحق الجميع في الشراكة السياسية.

إنّ الحل الحقيقي يبدأ بتطبيق اللامركزية الإدارية والسياسية، ومنح كل منطقة القدرة على إدارة شؤونها وفق خصوصيتها، مع الحفاظ على وحدة البلاد. كما لا بد من وقف فوري لكل العمليات العسكرية ضد المدنيين، وفتح تحقيقات نزيهة في الجرائم التي حدثت، وإعادة الاعتبار لكرامة السوريين المهدورة.

سوريا، التي فقدت نصف شعبها بين نازح وقتيل ومهاجر، لا تحتمل مجازر جديدة، ولا سلطة تكرّر أدوات النظام القديم بلبوس جديد. إن لم تُسْمِع السلطة أصوات الضحايا، فستكون نهايتها قريبة، لأن الشعوب قد تصبر، لكنها لا تنسى

* كاتب وباحث سياسي 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…