ياسر بادلي
وسط مشهد سوري يزداد تعقيدًا وتشظّيًا، تتكشف يوماً بعد آخر محاولات مستميتة لإخفاء جرائم لم تُمحَ آثارها بعد، لا في الساحل السوري، ولا في السويداء، ولا في دمشق أو سواها من المدن التي دفعت ثمن تمسكها بهويتها وتاريخها. الانتهاكات التي طالت المكونات الأصيلة، ليست مجرّد أحداث عابرة، بل وقائع موثّقة، ستبقى وصمة في جبين كل من صمت أو تواطأ.
في خضم هذا الانحدار السياسي والأخلاقي، يطلّ علينا أسعد الشيباني، بمحاولة أخيرة لإنقاذ ما تبقّى من دوره، متجهًا هذه المرة إلى موسكو، بعد أن سُدّت في وجهه أبواب واشنطن وأنقرة وحتى أبواب الخليج التي لم تعد تملك تأثيرًا يُذكر، ما دام الملف السوري بات مرهونًا لإرادة قوى أكبر، وعلى رأسها ما بات يُعرف في الأوساط السياسية
بـ الأزرق.
و الأزرق – ذاك الاسم الذي يُتداول في الخفاء أكثر مما يُكتب في العلن – لم يظهر إلا عندما قصّ أجنحة إيران في المنطقة، واستهدف مفاصل مشروعها العسكري والعقائدي، وفرض توازنًا جديدًا في سماء دمشق، وعلى حدود الجنوب، بل وفي عمق الجغرافيا التي كانت محسوبة على طهران. غير أن الجميع يتوارى حين يطرح السؤال الكبير: من يملك القرار الحقيقي في سوريا اليوم؟
أما في ملف الجماعات المتطرفة، فلا أحد يجرؤ على فتح الملف أمام “الأزرق”، فهو صاحب الكلمة الفصل، واليد التي لا تقاوم. وهنا يتضح أن لا أحد، مهما علا صوته أو كثرت وساطاته، قادر على تغيير المعادلة القائمة.
الشيباني، إذ يتوجه إلى موسكو، لا يحمل مشروعًا، بل يحمل خيبته. روسيا، رغم أنها كانت إحدى أبرز الفاعلين في المشهد السوري، إلا أن نفوذها بدأ بالتآكل. فالملف السوري بات فوق قدرتها، وتحوّل من ورقة بيدها إلى عبء يتطلب توافقات دولية معقّدة لا تُحلّ عبر زيارات فردية ولا عبر تفاهمات جزئية.
والأخطر من كل هذا، أن الجرائم التي ارتُكبت في الساحل والسويداء لا يمكن تبريرها بأي شكل من الأشكال. الدماء التي سُفكت، والأصوات التي أُسكتت، والقرى التي نُهبت وهُجّرت، لا يمكن تجاوزها. إنها ليست أحداثًا جانبية بل مفاصل تاريخية سوداء، لا تُطوى بتسوية ولا تُمحى بخطاب سياسي أو وعود جوفاء.
وفي خضم هذه التحولات، يبدو أن اللامركزية باتت الخيار القادم لسوريا، لا من باب الترف السياسي، بل من باب الضرورة الوطنية. إنها اللحظة التي يُعاد فيها تعريف العلاقة بين المركز والأطراف، وتُرسم فيها خرائط جديدة للسلطة والقرار والتمثيل.
أما أولئك الذين تأخروا في قراءة المتغيرات، وظنوا أن ما مضى سيعود، فقد سقطوا من قطار التحوّل، ولن تنفعهم زيارات اللحظة الأخيرة، ولا مناورات الهروب إلى الأمام.
القطار انطلق… واللامركزية قادمة.
ومن تأخر، فاته الركوب…