بَارَنْد بِيْرَاني
في السياق الكردي الحديث، يبرز ما يمكن تسميته بـ”التوقع على الذات” كأحد الأوجه الأعمق لمأزق المشروع القومي الكردي، حيث يُحمَّل الداخل الكردي أكثر مما يحتمل، بينما يُغفل المحيط الإقليمي والدولي وما يطرأ عليه من تبدلات جذرية. هذا التوقع، الذي قد يُفهم بوصفه شعورًا مضاعفًا بالمسؤولية الوطنية، يتجاوز حدوده الصحية ليتحول إلى ما يشبه العبء التاريخي الذي يُفقد الفعل السياسي الكردي مرونته وواقعيته، ويجعله يدور في حلقة مفرغة من جلد الذات حينًا، ومن تحميلها وزر الإخفاقات كلها حينًا آخر. المفارقة أن هذا التصور لم يسهم في الارتقاء بالمشروع التحرري الكردي، بل زاد من عزلته واغترابه، وعمّق شعورًا دفينًا بالخذلان الذاتي، ما جعل الكرد يتعاملون مع ماضيهم وحاضرهم السياسيين بقدر من القسوة غير المنتجة.
الكرد، في جل حركاتهم السياسية، لم ينجحوا في الإحاطة الجادة والعميقة بمحيطهم، بل ظلوا أسرى نظرة تجريدية تختزل القوى الإقليمية والدولية إلى مفاهيم جامدة ومطلقة، كـ”الاستعمار” أو “الدول الغاصبة”، دون قراءة للمصالح المتغيرة، أو سبر لأدوات التفاوض والضغط والتكتيك. وهذا العجز المعرفي عن قراءة العالم بمنظور العصر الحديث، بل وحتى عن فهم منظومة الدولة الحديثة وتحولاتها، جعل من التحرك الكردي فريسة سهلة للآخرين، تُستخدم أدواته بيسر في مشاريع غير كردية، تُغلف أحيانًا بشعارات قومية، وتُجهز على جوهر الفعل الوطني الكردي من داخله.
وما يزيد الأمر تعقيدًا أن الكرد غالبًا ما يحكمون على واقعهم ومعاركهم السياسية والاجتماعية بمعايير تنتمي إلى زمن تجاوزه العالم؛ فبدلًا من اعتماد موازين القوة المتغيرة وممكنات السياسة في لحظتها التاريخية، تُستعاد مقولات البطولة والتضحية على نحو ميثولوجي، وكأن صيرورة التحرر تقاس بمقدار الدم المسفوك لا بالنتائج المتحققة على الأرض. في هذا الإطار، تصبح العاطفة معيار التحليل السياسي، وتُستبعد العقلانية والحياد العلمي، إذ تُصاغ القرارات والقراءات بدافع الأمل، لا استنادًا إلى معطيات دقيقة، وتُرفض القراءة النسبية لمجريات الواقع، إذ يسود حكم مطلق على الوقائع، يقدّس بعض الأسماء، ويشيطن أخرى، دون فسحة للمراجعة النقدية أو حتى لاحتمال الخطأ.
وفي ظل هذا النهج، استمر الكرد، على مدى أكثر من قرنين، فريسة لأجندات الآخرين. كل محاولة للتحرر الكردي وُلدت ضمن أفق ضيق من التقدير للمصالح، أو أُجهضت بتحالفات متسرعة، أو خُنقت بسبب اعتمادها على قوى خارجية دون إدراك لتقلبات هذه القوى. من عبيد الله النهري إلى الشيخ سعيد بيران، ومن البدرخانيين إلى الحركة الحديثة، ظل المسار يدور في دائرة خيبة شبه دورية، يتغير الفاعلون وتتجدد الخطابات، لكن الحصيلة تتشابه.
أوضح نموذج معاصر لذلك ما شهده حزب العمال الكردستاني، الذي بعد أربعة عقود من المواجهة الدموية، انتهى إلى خطاب مسالم يقدّم نفسه كأنما لم يحمل سلاحًا يومًا، وكأن آلاف الضحايا لم يكونوا إلا صدى لمظاهرة غير مرخصة. ليست الإشكالية هنا في التحول ذاته – فالسياسة تقتضي إعادة التموقع – بل في إنكار الماضي أو الالتفاف عليه، دون مكاشفة نقدية أو مساءلة حقيقية، وكأن الكرد مدعوون دومًا لنسيان الخسارات وابتلاع التحولات دون فهم دوافعها.
وفي هذه اللحظة الراهنة، لا يبدو أن الإدارة الذاتية في شمال سوريا تسلك مسارًا مختلفًا عن سابقاتها، إذ تتكرر ذات الأنماط: الرهان على دعم خارجي هش، وغياب قراءة دقيقة للبيئة الدولية، وإفراط في تحميل الذات الكردية أعباء مضاعفة، بينما تُتجاهل ديناميكيات الداخل السوري والإقليمي. التاريخ لا يعيد نفسه، لكن الحلقات التي لم يُحسم فهمها تعيد إنتاج خيباتها في أشكال جديدة.
المطلوب اليوم ليس جلد الذات، بل الخروج من ثنائية اليأس والتفاؤل العاطفي، والانخراط في فهم صارم للواقع ومتغيراته، بمنهج علمي غير متحيز، يستعيد التجربة الكردية بكل خيباتها وإشراقاتها، ويضعها على طاولة نقدية صلبة. وحده مثل هذا الجهد يمكن أن يؤسس لتحرر حقيقي لا يعيد إنتاج مآسيه باسم أحلامه.
————————————-
بَارَنْد بِيْرَاني: متابع من غربي كردستان