خورشيد شوزي
الراوي: نفّاط بن طلاّق، عن لسان شيخ شهد الفزعة ورأى الفضيحة، أبي المنذر الفصيح، سامجه الله كما أسمج مقامه!
حدثنا نفّاط بن طلّاق، قال:
بينما كنتُ أطوفُ في بلاد المشرق، وأتسكّع في أطلال المغرب، وأجمع الحكايات كما تجمع العجائز اللُقيمات، إذ صادفتُ رجلاً في أطراف الشام، قد نحل جسده من التفكير، وابيضّت عارضاه من التحليل، يركبُ جواداً بلا سرج، ويسيرُ في دربٍ بلا نهج، فتعلّقتُ بردائه، وقلت: من أنت يا صاحِ؟ فقال:
أنا أبو المنذر الفصيح، عدوّ الغباء، وخصيم السفهاء، لا أرضى بالدون، ولا أساكن الفتون، أركبُ صهوة التأويل، وأجوسُ خلال الدخيل، أفتّش عن وطنٍ له ملامح، وعن دستورٍ لا يُكتبُ بالعجل، وأسعى لفيدراليةٍ لا تُشترى بالمِلل.
وأقولها: لا أبغي بها مديحاً، ولا أرجو بها رفيقاً، بل جعلها شهادةً في زمن الفضيحة، وفزعةً للحقيقة.
قلت: وماذا وجدت؟
قال: اسمع يا صاح، وبلّغ من ورائك من العقلاء، فإن السطر قد فاض، والصدر قد ضاق:
دخلتُ بلاد الشام، لا على دابّةٍ ولا على ناقة، ولا في ركاب والي، بل على جناح حيرةٍ أدمت الجبين، وأوجعت القرين، أفتّش عن وطنٍ يُلملم الشّتات، ويضمّد الشتائم، فإذا الطوائف خنادق، والعشائر متاريس، والبنادق مأجورةٌ برخصِ الترويج، والشعارات مقلوبةٌ بحبرٍ سريٍّ فصيح.
فيا حسرةً على قومٍ، جعلوا الفيدرالية فتنةً، والمركزيةَ طغياناً، والعشائريةَ صكّ خلاص، ففقدوا الوطن، ولم يربحوا غير الفضيحة.
دخلتُ الشام، لا ناصحاً ولا ناقماً، بل متعجباً ممّا رأيت من فزعاتٍ مدفوعة الأجر، وبياناتٍ تُصاغ في قصر السلطان، وشيوخٍ لا يفتون حتى يتفقدوا حساب البنك، ولا يخرجون في “البيك أب” حتى تأتيهم الإشارة من غرفة الإرسال.
رأيتُ المبعوث الأمريكي، يتنقّل كما يتنقّل شاعر المديح بين الدواوين، يزور بيروت كأنه المختار، ويحضر في أربيل كأنه الأمير، ويجالس مظلوماً كأنه السّاطور.
أما العشائر، فـ “يا سلام!”، ما إن سمعوا اسم السويداء حتى صاحوا: “فزعة يا رجال!”
فنهضوا كما تنهض الرغبةُ في موسم الانتخابات، ركبوا الرُبع، ورفعوا الرايات، كتبوا عليها “وحدة الوطن” بالمقلوب، فإذا نظرتَ أسفلها، رأيتَ ختم داعش، وتوقيع أنقرة، ورمز تمويل مشبوه، والحبر لا يزال طريّاً من كفّ الفضيحة!
فقلت: أهذه فزعة؟، أم جلسة تصوير؟. أهذه نخوة؟، أم خُدعة تمثيل بإخراج تركي وتمويل قطري، وسيناريو أمريكي؟. حتى السيوف التي رفعوها كانت بلاستيكية، لا تفزع عصفوراً، ولا تُخيفُ ضبعاً، والطلقاتُ التي أطلقوها كانت أشبهَ بالمفرقعات في مولدٍ رخيص.
ثم جاءت حكومة الجولاني، كمن حضر متأخراً عن حفلةٍ، ثم قال: أنا العريس!
رفعت رايةَ “إدارة المرحلة”، وما عرفت أن المرحلة هي من تُديرها، بالأمر اليوميّ، وبالإملاء الرسمي، والبيان المعدّ في دهاليز السلطنة.
وسُئل أحد شيوخ العشائر عن سبب الهجوم، فقال:
“شفنا الشباب طالعين، فقلنا نطالع معهم، فزعة لله. وإذا بالدروز طلعوا مسلحين!”.
فقلت: وهل كنت تنتظر أن يستقبلوك بالمناسف والزهور؟، أم حسبتَ السويداء مضافةً يُدخل فيها الغريب بلا سؤال ولا تصريح؟.
أما الفيدرالية – المسكينة – فقد جعلوها ذريعة، يعلّقون عليها عجزهم، ويخفون بها خيانتهم، وصوّروها كأنها رأس البلاء، مع أنها في عرف العُقلاء خشبة نجاة، لا مطيّة فناء.
لكنهم أرادوا “وحدةً” تحت البسطار، و”عدالةً” تُوزّع على طريقة القهوة المُرّة: رشفة للضيف، ودلّة للبيت الكبير. أرادوا شراكةً بنصف كلمة، وحُكماً مطلقاً باسم “المرحلة الحسّاسة”، والويل لمن اعترض أو قال: “لماذا؟”
ثم جاء تصريح “بروسي”: لا مانع من الفيدرالية.
فصاح “براك”: نرفض الفيدرالية!.
فصاح شيخٌ آخر من خلف الشاشة: يعني نفزع؟ ولا لا؟ بس افهمونا يا جماعة!
فصاح شيخٌ من شيوخ العشائر، وهو يقلب هاتفه يتفقد الرصيد:
“يعني نفزع ولا لا؟! بس افهمونا، خلّوا الأمور واضحة، مو فضيحة!”
فقلتُ: يا شيوخ الفزعة، ويا عشائر التوقيت، كفّوا عن الفزعات المُعلّبة، وعودوا إلى الحكمة قبل أن تُصبحوا كومبارساً في فلم لا يُعرض إلا في غرف المخابرات، ويُدبلج بلغاتٍ لا تفهم النياحة.
وأختم مقامي بقول أحدهم، من أبناء الجبال الشماء:
يا من تهرولون نحو المركزية كالعبيد، عودوا إلى العقل قبل أن يُدفن في القصيد، فالفيدرالية ليست فتنة، بل آخر دواءٍ في جسدٍ مجيد، أما أنتم، فبين مطرقة أنقرة وسندان واشنطن، سيضيع الوطن كما تضيع الغنائم في يد اللص السعيد، وتبقى الفزعة، زيفاً يعلو في الإعلام، ويُدفن في الوضيحة!
قال الراوي: فهزَّني قوله، وهزَّ القومَ من حولي، فقبّلتُ رأسه، وسألته أن يعيدها، فقال:
“القصيدة تُقال مرة، والفزعة لا تُكرّر إلا في النكسة!”
فودّعته، وهو يمضي إلى ندوةٍ جديدة، لعلّه يجد فيها من يفقه معنى “الشراكة”، ويستيقظ من نوم “الفضيحة”.