بوتان زيباري
إذا قيل لك “ليس لدينا مشاكل مع الكورد”، فاعلم أن خلف هذه الجملة البسيطة، سطورًا من الدم والنار، وصفحات لا تُنسى من الألم والتشريد. إنها ليست مجرد أحداث تاريخية عابرة، بل جراح غائرة في جسد الكورد، تتسع كلما حاولوا النهوض، وتتفاقم كلما حاولوا التشبث بأرضهم وثقافتهم وهويتهم.
بدأ المشهد الدامي عام 1920، حين اندلعت أولى الثورات ضد الاحتلال التركي، ولم تكن تلك الانتفاضات إلا صرخة وجود، لكن الرد جاء بقسوة دموية، حيث سقط آلاف الشهداء، وشردت مدن بأكملها، وكان ذلك مجرد بداية لسلسلة طويلة من المآسي. لم تقف الأمور عند حدود السلاح فقط، بل تحولت إلى سياسة منهجية لإبادة الأمل نفسه، وإجهاض أي محاولة للتمسك بالأرض أو الهوية.
في عام 1922، كانت مذبحة موتكي التي راح ضحيتها أكثر من ألف كوردي، ثم تبعها عام 1930 مجزرة وادي زيلان، حيث تم إبادتهم دون رحمة، من الأطفال إلى الشيوخ، وقتل حوالي أربعين ألف كوردي في مجزرة واحدة، كان الموت فيها يحمل وجهًا بشريًا، وجهًا ملوثًا بالدم والعنصرية. وفي نفس العام، شهدت منطقة آگري مجزرة أخرى، استشهد فيها الآلاف من عشائر جلاليان، وشارك الجيش الأحمر السوفيتي في هذا الفعل الذي لم يُكتب له العار كما يستحق.
بين عامي 1923 و1925، كانت ثورة شيخ سعيد التي خلفت ما بين ثلاثين وأربعين ألف شهيد، وكان الطيران البريطاني شريكًا مباشرًا في القتل عبر الغارات الجوية على مدن كوردستان. وفي عام 1933، كانت مذبحة شمزينان، حيث قتل ثلاثة آلاف كوردي، لتكون واحدة من أبشع صفحات القرن العشرين.
لكن السياسة التركية لم تكتفِ بالمذابح، بل انتقلت إلى سياسة التطهير العرقي المنظم، فخلال الفترة الممتدة من 1920 حتى 1940، تم ترحيل أكثر من خمسة ملايين كوردي إلى وسط الأناضول، وكأن الأرض نفسها يجب أن تُطهر من أصحابها الحقيقيين. واستمرت هذه الحملات حتى نهاية القرن العشرين، حيث تم تدمير أكثر من خمسة آلاف قرية كوردية خلال الفترة [1984–2000]، وتم ترحيل سكانها إلى أماكن بعيدة عن جذورهم و تاريخهم.
ومن بين الضباب الداكن، ظهرت منظمات سرية تمارس القتل تحت ستار الغموض، مثل “ذئاب الرمادية” و”لواء الثأر التركي” و”جيتام” و”لجنة مكافحة حرب الكريلا التابعة لحلف الناتو المعروفة بگلاديو”، حيث قُتل خلال سنوات [1988–2000] أكثر من عشرين ألف كوردي مدني، معظمهم من الطبقة المثقفة والمناضلة، وسُجلت جرائمهم تحت بند “مجهول”!.
ومع مرور الزمن، لم تتوقف الحرب، فمنذ أيار 1983 وحتى اليوم، شُنّت أكثر من ثلاثين حملة عسكرية على جنوب كوردستان، وقُصفت المئات من القرى، وشرد الآلاف، وتحولت المدن إلى أنقاض، والبشر إلى لاجئين .ومذبحة ساسون كانت واحدة من هذه المجازر، حيث قُتل الآلاف، ودُمرت عشرات القرى، وتم تهجير الباقية إلى وسط الأناضول .وعام 1930 أيضًا، شهدت قرقلي إبادةً لسكان 33 قرية من جبال زاغروس، وبقي ذكرها في أغنية الفنان جوان حاجو التي تجسدت فيها المأساة بصوتٍ يحمل الحزن والصمود.
إن كل هذه الأحداث ليست سوى مجرد لمحة من بحر طويل، ما قامت به الطورانية التركية من انتهاكات لا تعد ولا تحصى، فالحديث يطول إذا أضفنا جرائم العرب والفرس في تطهيرهم العرقي وإبادتهم للكورد. إنها حلقات مستمرة من مأساة لا تنتهي، حيث يُستباح الدم الكوردي دون رحمة، وتغرق الأرض في مائه حتى آخر قطرة. فهل يُعقل، بعد كل هذا، أن يُقال إنهم لا يعانون من صراعات مع الكورد؟ التاريخ لا ينسى، والدماء تتكلم، والحقيقة لن تبقى مدفونة إلى الأبد.
إن هذه الصفحات المؤلمة من التاريخ، لا ينبغي أن تُكتب فقط في الكتب، بل يجب أن تُقال بصوتٍ مرتفع، وتُغنى في الأشعار، وتُرسم في اللوحات، وتُروى في الحكايات، ليعرف الأجيال القادمة أن الحرية لا تُعطى، بل تُنتزع من بين الأنياب والأظافر، وأن الحق لا يموت رغم طول الليل.
أبعد كل هذه الجرائم التي اقترفوها، ما زال هناك من يأمل في وعودهم الكاذبة؟!
السويد
16.07.2025