توماس باراك وسرّ الشرق الأوسط المؤجّل – 1/2

د. محمود عباس

ليست تصريحات توماس باراك، المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، مجرد ارتجالات دبلوماسية عابرة، فالرجل، الذي ظل لفترة يراوغ الكلام ويؤجل الإفصاح، بدأ الآن يكشف تدريجيًا عن خيوط الاستراتيجية الأمريكية طويلة النفس في الشرق الأوسط، وخاصة في الملف السوري، والقضية الكوردية، والعلاقة المركبة بين الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والحكومة السورية الانتقالية.

لم يكن تأجيل الإفصاح عن هذا المخطط اعتباطًا، فواشنطن، كما يبدو، اختارت أن تؤخّر المواجهة مع بعض الفاعلين الإقليميين، وعلى رأسهم تركيا، إلى ما بعد حسم ملفات أكثر استعجالًا، إيران وأذرعها، وترتيب التوازن داخل العراق ولبنان، وهذا التأجيل لم يكن ضعفًا، بل كان ضرورة تكتيكية، تهدف إلى امتصاص التصعيد التركي، وإلهاء أنقرة عبر قنوات تفاهم وهمية، ريثما يتم تثبيت المشهد النهائي الذي تريده واشنطن، لا المشهد الذي تحاول تركيا فرضه كأمر واقع.

تركيا، بدورها، لم تكن ساذجة أمام هذا التأجيل الأمريكي، بل تحركت بخبث سياسي، مدفوعة بهاجس خسارة نفوذها، لتدفع نحو مشاريع “التتريك الإداري”، وخلق منظومات اقتصادية وتعليمية وأمنية موازية داخل الشمال السوري، محاولة السيطرة على سوريا من البوابة السنية الراديكالية، وإعادة تدوير المجاميع المتطرفة لتكون حكومة ظل، جاهزة للعرض في حال قايضها المجتمع الدولي على حساب الكورد أو الفيدرالية، هذه الحكومة، إن أُقرّت يومًا، لن تكون سوى كابوس جديد على المنطقة، وتهديد مباشر لأمن إسرائيل، ومن خلفها أمن الولايات المتحدة والتحالف الأوروبي.

هذا ما دفع الولايات المتحدة إلى تحريك القضية الكوردية مجددًا، ووضع صراع حزب العمال الكوردستاني مع الحكومة التركية في صدارة المشهد، ضمن إطار أوسع لمعادلة “السلام الإقليمي” في الشرق الأوسط. غير أن تركيا أدركت سريعًا أن الأمر لا يتعلق بعملية سلام تقليدية، بل بانخراطها القسري في مخطط جيواستراتيجي يعيد رسم خرائط النفوذ والمراكز، وجيوسياسي يعيد رسم خريطة سايكس بيكو.

ولتفادي موجة التغيير القادمة، سارعت أنقرة إلى تسريع العمل على ملف التفاوض المباشر وغير المباشر مع القائد عبدالله أوجلان، عبر وفد من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (دام بارتي)، وبمشاركة البرلمان التركي، ممثلاً بنائبته پروين بولدان، وتشير المعلومات إلى أن لجنة برلمانية خاصة ستُشكّل لمراجعة الدستور ومعالجة قضايا محورية، في محاولة لامتصاص الضغوط الداخلية والخارجية، وقطع الطريق على السيناريوهات الكبرى التي بدأت تطرق أبواب تركيا، والتي لن تنتظر طويلاً قبل أن تُصبح واقعًا مفروضًا.

وما يُقال بأن الدعم الأمريكي لقوات قسد هدفه “إحداث تغيير داخلي” في بنيتها أو في قياداتها، لا يعدو كونه قراءة سطحية تنم عن قصور في فهم بنية التحالفات الاستراتيجية، فقسد، كما أكدت مرارًا الدوائر الأمريكية، هي الشريك الميداني الأكثر موثوقية في سوريا، وهي اليوم الحاضن الأكثر تماسكًا لمفهوم سوريا المستقبل، بعيدًا عن ثنائية السلطة والمعارضة المتهافتة، إن ثبات التحالف مع قسد لا يعني فقط دعمًا عسكريًا، بل هو رسالة إلى الداخل السوري، بأن السلطة الشرعية القادمة لن تُفرض من منابر المتطرفين ومنظمات الإسلام السياسي الراديكالي، ولا من المجاميع العنصرية العروبية الحاقدة، بل من التوافق اللامركزي الذي يحمي الجميع.

ومن هنا، تتّضح أهمية التصريحات الأخيرة للمبعوث الأمريكي توماس باراك، حين أشار بصراحة إلى كارثية اتفاقية “سايكس–بيكو”، ليس كحدث تاريخي ماضٍ، بل كجذرٍ مستمر للتشوّه الجغرافي والسياسي في المنطقة. باراك لم يتحدث من فراغ، بل من موقع يعكس إعادة تموضع الاستراتيجية الأمريكية، حيث لم تعد واشنطن تكتفي بإدارة الفوضى، بل تسعى، ولو تدريجيًا، إلى تصحيح الخرائط وفقًا لمصالحها الجديدة وشراكاتها الناشئة.

جاءت لغته أكثر حذرًا من أن تُغضب الحلفاء التقليديين، تركيا بشكل خاص، لكنها كانت كافية لتُقرأ بتمعّن من قبل كل من يعنيه الأمر، فسايكس–بيكو لم تُصمّم لمصلحة الشعوب، بل جُعلت لإرضاء الإمبراطوريات، واليوم، وبينما تترنّح تركيا، وتتلاشى سلطة إيران في سوريا، وتغيب روسيا عن المشهد، تعود الولايات المتحدة لترسم، عبر أدواتها المحلية، معالم مرحلة جديدة، بدأت تتشكل على أنقاض الخرائط القديمة، وبشركاء جدد، في طليعتهم الحراك الكوردستاني، وبينهم قسد والإدارة الذاتية.

 يتبع…

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

6/7/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…