خالد بهلوي
عند الحديث عن انشقاقات الأحزاب الكردية، من الإنصاف التذكير بدور هذه الأحزاب وأهمية وجودها على الساحة الكردية، وبيان دورها في الحفاظ على الهوية ويقظة الشعور القومي، والسعي لتحقيق الاعتراف الدستوري بالحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في سوريا.
تناضل هذه الأحزاب من أجل حق الأكراد في التعلم بلغتهم الأم. ورغم الحظر والمنع، حافظوا على لغتهم وهويتهم، بعد سنوات من حرمانهم من التعبير عن آرائهم ومواقفهم، وحقهم في الدفاع عن حقوقهم المشروعة والمشاركة في الحياة السياسية.
بعد الأحداث، لعبت هذه الأحزاب دورًا مهمًا، سواء على المستوى المحلي أو في الحوارات السورية العامة (مثل محادثات جنيف أو أستانا). يرى البعض أن هذا الدور كان سلبيًا، بينما يراه آخرون إيجابيًا.
لقد استطاعت هذه الأحزاب الحفاظ على العادات والتقاليد والتراث الكردي والخصوصية القومية، من خلال الفعاليات الثقافية والفنية، رغم القرارات التي أصدرتها الأنظمة السورية منذ عقود بحق الكرد من مختلف النواحي.
لعبت، ولا تزال تلعب، الأحزاب الكردية في سوريا دورًا محوريًا في تنظيم المجتمع الكردي، والدفاع عن حقوقه، وتمثيله سياسيًا، لكنها تواجه تحديات داخلية، أبرزها الانقسامات.
تجاوز عدد الأحزاب الكردية في سوريا العشرات، وكل طرف يدّعي امتلاك الحقيقة. والمثير للانتباه أن كل من انشق عن تنظيمه الأم يدّعي أنه “المخلّص الثوري” المنقذ من حالة الضعف والتقاعس التي وصل إليها الحزب، وأن لا حل إلا بتنظيم جديد يعيد للحزب نشاطه وجماهيره ويستعيد الثقة بين الحزب ومؤيديه.
المثير للسخرية أن بيان الانشقاق غالبًا ما يدعو إلى “وحدة الصف الكردي”، ويسعى للانضمام أو التحالف مع “الفريق” ذاته، ويتعهد بنشر الحرية والديمقراطية، بعد أن تخلّص من القيادة القديمة التي كانت، بحسب وصفه، تقف ضد النقد والرأي الآخر، وتستغل نفوذها لصالح من يقدمون لها الولاء والطاعة. لكن سرعان ما تنكشف الحقيقة: التوجهات نفسها، والمواقف ذاتها، ولم يقدم التنظيم الجديد أكثر مما قدمه سلفه، بل غالبًا ما يكون أضعف جماهيريًا وعدديًا وتأثيرًا على الساحة القومية.
وهكذا، في كل مرة تُنتخب قيادة جديدة، تُعلَّق عليها الكثير من الآمال بأنها ستكون رائدة في النضال القومي والوطني، لكن الواقع يُثبت العكس، وتستمر في السياسات والمواقف نفسها، حتى يظهر شخص جديد يعلن انشقاقه مرة أخرى، وهكذا تتدحرج كرة الانشقاقات وتكبر مثل كرة الثلج، للأسباب والمبررات ذاتها.
وما إن يصل هؤلاء إلى هرم القيادة الحزبية، ويذوقوا طعم الامتيازات، وينالوا نصيبهم من “المال السياسي”، حتى ينحرفوا مع الوقت، وينسوا ما قطعوه على أنفسهم من وعود أمام مؤتمراتهم الحزبية.
عادة ما يتظاهرون بأنهم الأكثر فهمًا وإدراكًا وتحليلًا “صحيحًا” للواقع، وأنهم خبراء في الفيزياء، وعلوم الأرض، والتاريخ، وما وراء البحار، وحتى في رياضة كرة القدم!
ويفرضون حضورهم ورأيهم من باب مركزهم الحزبي، ويدّعون أنهم يتحملون “المسؤولية التاريخية”، ويُشعرون الآخرين بأن وجودهم هو “بوصلة الأمان” للتنظيم، وأنه لولاهم لضاعت القضية وحقوق الشعب.
تعكس انقسامات الأحزاب الكردية في سوريا حالة من الرفض والاستهجان لدى الكثيرين، سواء داخل الأحزاب أو خارجها. الانشقاقات المتكررة تعود إلى أسباب متعددة، منها خلافات فكرية، لكن أغلبها تنظيمية بحتة.
في بعض الأحزاب، تتمركز الزعامة حول أشخاص أو عائلات، ويحدث الانشقاق عندما يشعر أحد القادة بالتهميش. كما أن بعض الانشقاقات تنجم عن تركيز النفوذ في منطقة دون أخرى، ما يخلق شعورًا بالتهميش داخل الحزب.
إضافة إلى ذلك، تؤثر بعض التدخلات الخارجية “الصديقة” على استقلالية الأحزاب الكردية في سوريا؛ إذ تتلقى بعض الأحزاب دعمًا من إقليم كردستان العراق، بينما ترتبط أخرى بشكل أو بآخر بحزب العمال الكردستاني (PKK)، مما يخلق تضاربًا في المواقف ويزيد من فرص الانشقاق.
تلعب الولاءات العشائرية والقبلية دورًا أيضًا، حتى داخل المؤسسات الحزبية، حيث تسعى هذه الجهات إلى التأثير على القرار الكردي أو إضعافه من خلال دعم طرف على حساب آخر. ويؤدي هذا التدخل إلى مزيد من التفتت والتنافس، بدلًا من التنسيق والتحالف.
كما أن عدم تداول منصب السكرتير لأكثر من دورتين (ثماني سنوات كحد أقصى) يؤدي إلى الانقسامات وتأسيس كيانات جديدة. ففي بعض الأحزاب، تستمر القيادة لعقود دون أن تتغير.
لم نسمع عن سكرتير تنحّى طوعًا عن منصبه من أجل خدمة حزبه، ومنح المجال للعقول الشابة المتفتحة بالفكر والوعي الجديد، في زمن أصبح فيه العالم قرية صغيرة، حيث تصلك الأخبار فورًا، ولا تنتظر جريدة حزبية شهرية تصدر في بداية كل شهر! للأسف، تفكير بعض القيادات بعيد عن تحقيق المصلحة العامة للشعب الكردي، ويتركز على البقاء في هرم القيادة. ويكثر الحديث عن أن معظم نشاطات بعض الأحزاب تهدف فقط لإثبات الوجود، وأنها لا تزال “تناضل” و”فعالة” على الساحة.
الأمل معقود على تصاعد دور جيل جديد، يؤمن بالوحدة الحقيقية لا بالشعارات، ولا يكتفي ببيانات الشجب والاستنكار – رغم أهميتها -، ولا يقتصر نشاطه على نشر الصور في وسائل التواصل الاجتماعي، أو المشاركة في التعازي، أو استقبال الوفود الحزبية، أو تبادل التهاني بمناسبة انعقاد مؤتمر، حتى لو كان المؤتمر ناتجًا عن انشقاق من حزب آخر.
الأمل الحقيقي يكمن في ضغط شعبي حقيقي، يدفع نحو تجاوز الخلافات، وتقليل الاعتماد على الخارج، وتعزيز المشروع الكردي المستقل سياسيًا، وإبعاد المال السياسي إن وُجد.
وقد تم الاتفاق، بعد أحد أهم المؤتمرات مؤخرًا، على مطالب تضمن حقوق الشعب الكردي في الدستور وعلى الساحة فعليًا. بهذا الاتفاق، تفاءل الجميع وأيّدوا ورحبوا بهذه الخطوة التاريخية، متأملين أن تستمر وتصبح نواة لأعمال ومواقف مشتركة مستقبلًا.
لقد استطاعت هذه الأحزاب، رغم عملها المنفرد، إنجاز الكثير من المهام النضالية القومية. فماذا لو توحدت في ثلاثة أو خمسة أحزاب فقط؟ لذلك، تتكرر المطالب من كل مواطن كردي مستقل، وحتى من أعضاء الأحزاب أنفسهم، بضرورة وأهمية وحدة صف الأحزاب المتقاربة فكريًا وسياسيًا.
كما طرح الأخ علي شمدين، أحد قياديي الحركة الكردية، حين قال:
“إن من أسوأ الظواهر التي عانت منها أطراف الحركة الكردية في سوريا، ومنذ تأسيسها عام 1957، هي ظاهرة انشقاق صفوفها وتشتت خطابها السياسي والإعلامي، الذي ظل حتى وقت قريب جدًا حبيس الدائرة الضيقة، ورهين دوامة المزاودات والشعارات العقيمة (الطبقية والكردستانية)”. انتهى الاقتباس.
أظن أن حالة الانقسامات والتشرذم في الأحزاب الكردية هي حالة غير طبيعية، وغير مألوفة في تاريخ الأحزاب السياسية ذات التجارب المماثلة.ولذلك، فهي حالة شاذة عن قواعد التنظيم والعمل النضالي في مثل هذه المراحل، ولا يمكن لبعض الأحزاب القبول بالحلول الوحدوية، لأن الانقسام يخدم مصالحها الشخصية.