عبد الجابر حبيب
حين اشتعلت الأسئلة على المسرح الملتهب للشرق الأوسط، يعود المشهد ليحترق من جديد، وتعلو أصوات الصواريخ فوق صمت الأسئلة:
من ورّط مَن؟
وهل كانت الضربة الأمريكية في فوردو لحماية إسرائيل، أم لإرسال رسالة لإيران، أم أنها مجرّد حلقة جديدة في مسرحية كُتبت نصوصها في الظلّ منذ زمن بعيد؟
منذ بدأت إسرائيل ضرباتها الجوية داخل العمق الإيراني، بدا أن شيئاً ما يتغير. الطائرات الإسرائيلية تخترق الأجواء كما لو أن سماء طهران بلا مفاتيح، بينما الردّ الإيراني بدا ـ على غير عادته ـ مرتبكاً، متردداً، بل ومحدود التأثير. لم يكن عدم التكافؤ هذا إلا انعكاساً لحقيقة مؤلمة: سلاح الجو الإسرائيلي ما زال متفوقاً، في حين أنّ ترسانة إيران تعجز عن تخطّي القبة الحديدية، التي ـ رغم كل العيوب التي تتخللها ـ ما زالت قادرة على حماية المجال الإسرائيلي من الردود المباشرة.
ما وراء فوردو: ضربة محسوبة أم صفقة مخفية؟
رغم دعوات التريث المتكررة من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورغم ما أُعلن من تحذيرات بعدم الانجرار نحو مواجهة مباشرة، وجدت أمريكا نفسها فجأة تطلق طائراتها نحو قلب إيران، وتصيب منشأة فوردو النووية إصابةً مباشرة.
فهل كانت المفاجأة مفاجِئة حقّاً؟
أم أن كل شيء كان متفقاً عليه سلفاً، وأنّ “الضربة” جاءت إرضاءً لإسرائيل لا أكثر؟
ما أثار الشكوك أكثر هو التصريح الإيراني الرسمي الذي جاء بعد الهجوم بساعات “لقد نقلنا المواد المُخصّبة قبل الضربة”
هل كانت مصادفة؟ أم أن الأميركيين بعثوا برسالة مبكرة إلى الإيرانيين تفيد بأنّ القصف قادم؟
وهل أرادت واشنطن بذلك تحييد الرد الإيراني، أم تفادي صِدام مفتوح لا تريد الانزلاق إليه؟
الدبلوماسية بين نارين: عبور محفوف باللهب
وسط هذا التصعيد الحاد، تبدو الدبلوماسية وكأنّها تمشي حافيةً فوق الجمر، بين نيران تل أبيب ولهيب طهران. فكل دعوة لخفض التوتر تصطدم بصدى الانفجارات، وكل يد ممدودة للحوار تُسحب فوراً إلى الزناد. ومع ذلك، لا تزال بعض النوافذ، وإن ضيّقة، مفتوحة.
فواشنطن، رغم ضراوة موقفها، تعلم أن حرباً مفتوحة في الشرق الأوسط ستكون بمثابة زلزال لا يمكن احتواؤه، وستُغرق حلفاءها قبل أعدائها. وطهران، التي لا تزال تلملم شظايا الداخل المتصدّع، تدرك أن جرّ المنطقة إلى حرب شاملة قد يعني كتابة نهاية النظام لا انتصاره.
وفي هذا السياق، يبرز سيناريو “الوسيط الرمادي”، حيث تتقدّم أطراف كتركيا أو قطر أو سلطنة عُمان، لتطرح مسارات خلفية غير مُعلنة، تُبقي خيوط التفاهم متماسكة ولو بالحدّ الأدنى. لكن حتى هذه الخيوط مهدّدة بالاشتعال، فالدبلوماسية في هذا المشهد لا تملك أدوات ضغط حقيقية، بل تتكئ على توق الأعداء إلى تفادي الكارثة، أكثر مما تستند إلى رغبتهم في السلام.
ربما تعود لغة الغرف المغلقة، وربما تُولد صفقة مباغتة في ساعة متأخرة،
لكن المؤكد أن الطريق إلى الطاولة…
بات أطول من مدى الصواريخ.
وبين نارين… لا تُبنى الجسور، بل تُجرّب فقط احتمالات العبور.
غياب الخليج: قراءة في خطوط الطيران
إذا كانت أمريكا جادّة في توجيه الضربة، فلماذا أطلقت طائراتها من أراضيها، لتقطع مسافة 37 ساعة من الطيران، بدلاً من استخدام قواعدها المنتشرة في الخليج؟
هل هو اتفاق ضمني مع دول الخليج بعدم الزجّ بأراضيها في حرب غير محسوبة؟
أم أن الرياض وأبوظبي قد فهمتا اللعبة الأمريكية جيداً، وقررتا النأي بأنفسهما، بعدما رأتا كيف تحوّلت ألمانيا وفرنسا إلى ضحايا في حرب أوكرانيا ـ حرب لم تكن لهما فيها ناقة ولا جمل، سوى التورّط في فاتورة بلا نهاية؟
كثيرون يرون في الضربة الأمريكية درساً لا يُكتب بالحبر، بل باللهب.
لكن، لأيّ جهة كان الدرس؟
هل كانت رسالة إلى إيران: “نحن نعرف، ونصل متى شئنا”؟
أم إلى إسرائيل: “لقد ساندناكم، فلا تتجاوزوا الخطوط أكثر”؟
أم إلى دول المنطقة: “ابقوا على الحياد، فنحن نضرب من حيث نشاء، ولا حاجة لأرضكم”؟
الرد الإيراني: لعبة الانتظار أم الانفجار؟
الردّ الإيراني المرتقب هو أكثر ما يُقلق المنطقة.
فهل تختار طهران مضيق هرمز لتقلب الطاولة، وتُشعل الاقتصاد العالمي؟
أم أنّها ستكتفي برسالة رمزية، وتعود إلى الظلّ، تُرمم خطابها الداخلي وتنتظر الجولة التالية؟
أم أن أمريكا، بتدخّلها المباشر، أغلقت الدائرة، وحددت قواعد الاشتباك الجديدة؟
في زمن تتشابك فيه المصالح والدماء، لم تعد الحقيقة في المتن، بل في الهوامش.
وما بدت كضربة عسكرية، قد يكون في عمقها تسوية سياسية، أو تبادل أدوار، أو حتى استعراضاً لا أكثر.
لكنّ ما هو مؤكد أن الزمن القادم لا يحمل استقراراً، بل مفاجآت.
أسئلة كثيرة بلا أجوبة، وإجابات مبهمة تخفي وراءها لهباً قادماً.
ففي هذه الحرب…
لا أحد بريء.
ولا أحد منتصر.