د. كاميران حاج عبدو
من جبال عفرين، المعروفة تاريخياً بجياي كورمينج، إلى سهول كوباني، گري سپي، سري كانيه، قامشلو وديريك، لا يعيش الكُرد كأقلية مهاجرة أو طارئة، بل كشعبٍ أصيل متجذر في هذه الأرض عبر التاريخ. فقبل أن تُرسم حدود سايكس–بيكو، وقبل أن تُفرض خرائط جديدة بقوة الاستعمار، كانت هذه الأرض تنبض بالحياة الكردية، تنمو فيها اللغة، وتُصان فيها الثقافة والتقاليد الكردية المتجذّرة عبر قرون.
اليوم، وبعد أكثر من قرن من محاولات الطمس والتذويب، آن الأوان لإعادة الأمور إلى نصابها: الكُرد في سوريا ليسوا “أقلية داخل الدولة”، بل يشكّلون أكثرية سكانية في مناطقهم، وهم شعب يطالب بحقوقه المشروعة على أرضه.
في شمال سوريا، يشكّل الكُرد غالبية السكان في المناطق التي يتوزعون فيها. إنهم ليسوا وافدين، بل أبناء الأرض، لهم حضور تاريخي موثّق ثقافياً وسياسياً وديمغرافياً. ومع ذلك، سعت الأنظمة السورية المتعاقبة إلى إنكار هذا الواقع من خلال سياسات ممنهجة، تمثلت في التعريب القسري، وعلى رأسه مشروع “الحزام العربي” في الجزيرة، وكذلك سياسة التوطين التي شملت نقل عرب من مناطق أخرى إلى منطقة عفرين تحت ذريعة الإصلاح الزراعي، إضافة إلى حرمان عشرات الآلاف من الكُرد من الجنسية السورية وتحويلهم إلى “أجانب” في وطنهم، وحظر استخدام اللغة الكردية في التعليم والإعلام، بل وحتى في الاستخدام اليومي داخل المدارس وساحاتها، حيث كان يُمنع التلاميذ من التحدث بلغتهم الأم خلال الفُسح أو بين الحصص. كما جرى قمع النشاط السياسي والثقافي الكردي ووصمه بـ”الانفصال”، واتهام أي تعبير عن الهوية الكردية بأنه “محاولة لاستقطاع جزء من الوطن وضمّه إلى دولة أخرى”، وهي اتهامات متكررة استخدمها الخطاب الرسمي السوري لعقود لتبرير القمع.
لكن كل هذا لم يُلغِ الحقيقة: الكُرد لا يطالبون شيئاً خارج المنطق أو القوانين، بل يطالبون باعترافٍ عادل بهم كشعب يعيش على أرضه، بلغته، وثقافته، وهويته.
المواثيق الدولية تدعم هذا المطلب المشروع. فالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 ينص على أن من حق الأقليات القومية أو اللغوية أن تحافظ على لغتها، وتمارس ثقافتها بحرية، وتُشارك بفعالية في الحياة السياسية. وإذا كان هذا الحق مضموناً للأقليات، فإن الكُرد، بوصفهم مكوّناً رئيسياً من الشعب السوري، وأكثرية في مناطقهم التاريخية التي كانت جزءاً من الإمارات الكردية قبل تشكيل الدولة السورية وضمّها لها، يحق لهم ما هو أبعد من مجرد “الحفاظ”، بل المشاركة في رسم مستقبل وطنهم. ومطالبهم بإدارة مناطقهم ضمن سوريا ديمقراطية لا مركزية لا تمثل تهديداً للوحدة الوطنية، بل تجسّد مبدأ “تقرير المصير الداخلي”، الذي تعترف به الأمم المتحدة وتدعمه القوانين الدولية.
ليس من المقبول أن يُعامَل الكُرد في وطنهم كغرباء أو تهديد يجب احتواؤه، وكأن وجودهم مشكلة أمنية لا مكوناً وطنياً أصيلاً. إن بناء سوريا المستقبل لن يتم من دون الاعتراف الكامل والصريح بحقوقهم القومية، بوصفهم شريكاً في الوطن، لا طرفاً مُراقَباً. الاعتراف بالكُرد لا يُضعف وحدة سوريا، بل يحصّنها. فكل تأجيل للاعتراف يزيد من الغبن، ويُضاعف التوتر، ويُقوّض فرص التعايش.
لقد أثبتت التجربة الكردية في سوريا أن هذا الشعب لا يحمل مشروعاً انفصالياً، بل يسعى لبناء نموذج ديمقراطي تعددي، يمكن أن يكون حجر الأساس لسوريا جديدة، عادلة، ومزدهرة، لا عبئاً عليها.
الاعتراف بالوجود الكردي في سوريا، واعتماد اللغة الكردية كلغة رسمية على مستوى الدولة إلى جانب اللغة العربية، وإعادة الجنسية للمجردين منها، وضمان تمثيل سياسي عادل للكُرد في دستور سوريا المقبل، ليست تنازلات، بل حقوق طبيعية وإنسانية. هي الحد الأدنى لأي مشروع وطني حقيقي، يسعى إلى الشمول لا الإقصاء، إلى العدالة لا التفوّق، إلى الشراكة لا الهيمنة.
الكُرد ليسوا طارئين على هذه الأرض ولا زائرين في وطنهم، بل هم جزء حيّ من ذاكرة المكان وروحه، من جياي كورمينج إلى نهر دجلة، ومن لهجات القرى إلى أغاني الأعراس والمآتم. حضورهم لم يكن يوماً تفصيلاً، بل ركناً أصيلاً في نسيج سوريا. والاعتراف بحقوقهم، ليس منّة ولا تفضّلاً، بل استحقاق تأخر كثيراً، آن أوان إنصافه. وحده الاعتراف الصادق، والمواطنة المتساوية، والتمثيل العادل، هو ما يُعيد لسوريا توازنها، ويمنح جميع أبنائها مكاناً متساوياً تحت شمس وطنٍ يتّسع للجميع.
==========
صحيفة كوردستان – العدد 754