خورشيد شوزي
في لحظة دقيقة من تاريخ سوريا الثقافي، وجدت رابطة الكتّاب السوريين نفسها على مفترق حاسم: هل تقف إلى جانب القيم التي تأسست من أجلها؛ حرية التعبير والعدالة والمساواة؟ أم تنزلق، بوعي أو بغير وعي، نحو تبرير خطاب عنصري يتناقض مع أبسط المبادئ الإنسانية والوطنية؟
ما صدر عن رابطة الكتّاب السوريين مؤخراً ليس بياناً للدفاع عن حرية الرأي، بل وثيقة سقوط أخلاقي وسياسي، تؤكد أن بعض من يحملون القلم في هذه المؤسسة، لا يميزون بين حرية التعبير وبين الترويج لخطاب عنصري قذر، لا يليق إلا بمن أدار ظهره للعدالة، واختار الاصطفاف مع الظلم، ضد مكوّن سوري أصيل، هو الشعب الكردي.
الكاتب إبراهيم الجبين، الذي أطلق تعبيراته العنصرية المهينة بحق الكرد، ارتكب جريمة فكرية مكتملة الأركان، حين شبّه شعباً بكامله بالبغال، ونعته بالتهريب والانفصالية، وتمادى في إذلاله اللفظي، دون أي وازع أخلاقي أو احترام للحقيقة. هذا ليس “رأياً شخصياً”، بل تحريض علني ضد مكوّن وطني له تاريخه ودمه في تراب هذا البلد.
والمصيبة الأكبر، أن رابطة الكتّاب، بدل أن تدين هذا السلوك المشين، وقفت موقف المدافع عنه، مختبئة خلف لافتة بالية اسمها “حرية التعبير”، وكأن السبّ والشتم العنصري بات حقاً مشروعاً، بينما الرد عليه يُجرَّم ويُدان.
لقد كتب الكاتب الكردي ماهين شيخاني رداً واضحاً، فيه من الشجاعة والكرامة ما يكفي لفضح الخطاب العنصري المنفلت، ومع ذلك لم نرَ من الرابطة سوى انحياز فجّ إلى المسيء، ومحاولة تسخيف الردّ وتصويره كتهديد! هذه سابقة خطيرة، وسقطة لا تغتفر لمؤسسة يُفترض أنها تعنى بالكلمة الحرة لا بتحويرها لتخدم أجندات عنصرية.
الجبين، الذي كان يوماً من دعاة الفيدرالية، أسقط القناع عن وجهه، وكشف عن عداء دفين للكرد، لا يقتصر على الهجوم على أشخاص أو أفكار، بل يطال جوهر وجودهم، ويشكّك بأحقية نضالهم وتضحياتهم. وهذا العداء لا ينفصل عن العقلية الشوفينية البعثية التي دمّرت البلاد، واستباحت المكوّنات، وشيطنت كل صوت يطالب بالاعتراف والعدالة.
ومن يقف اليوم في صف الجبين، إنما يشارك في جريمة إعادة إنتاج الاستبداد، بثوب جديد، ومفردات كاذبة، تدّعي الوطنية بينما تنسف أساسها الحقيقي: التعدد والعدالة والشراكة.
إن تجاهل الكرد، أو وصفهم بالطارئين، ليس فقط كذباً تاريخياً، بل عنصرية فاقعة. الكرد لم يهبطوا من المريخ، بل هم من حرسوا الحدود، وزرعوا الأرض، ودفعوا دماءهم في كل منعطف حاسم من تاريخ سوريا.
ما نراه اليوم هو عار. أن يُستدعى كاتب كردي للمساءلة لأنه تجرأ على الرد، بينما يُترك المسيء دون حتى لوم رمزي، فهذه ليست فقط ازدواجية معايير، بل إهانة موصوفة لقيم الكتابة، ومساهمة مباشرة في شرعنة الحقد.
لو أن الاعتداء كان على مكوّن آخر، هل كانت الرابطة ستصمت؟ أم أن بعض النخب الثقافية ما زالت تعتبر الكرد مجرد “ملحق” للوطنية، يُستَرضى عند الحاجة، ويُطعن عند أول اختلاف؟
الردّ على الجبين ليس تهديداً، بل هو ممارسة شرعية لأبسط الحقوق: الدفاع عن الكرامة. ومَن يصفه بالوعيد، إنما يعكس خواءً أخلاقياً، وتواطؤاً مع الفكرة الأمنية التي تتستر بالشعارات، لتشرعن التهميش والاحتقار.
إن الهجوم الممنهج الذي يتعرض له الكرد ليس جديداً، لكن الجديد أن يُمارس عبر أقلام يُفترض بها أن تكون ضمير المجتمع، لا أداة للقمع الناعم. من يسكت اليوم عن هذه الإهانات، يضع نفسه في صفّ الجلاد، وليست هناك منطقة رمادية في هذا السياق.
على رابطة الكتّاب السوريين أن تعيد النظر في موقعها: هل هي صوت الضمير؟ أم بوق لصراخ الكراهية؟
وعلى الجبين، وكل من يشاركه الموقف نفسه، أن يعلموا أن الكرد ليسوا مادة للسخرية، ولا رقماً فائضاً في معادلاتهم الضيقة، بل هم شعب حيّ، لا يمكن شطبه من تاريخ سوريا، ولا من مستقبلها.
الكاتب الكردي حين يكتب، لا يسعى لفتنة، بل يطالب بحق. وحين يدافع عن نفسه، لا يهدد، بل يرفض أن يُداس. ومن لا يفهم هذه البديهيات، لا يستحق أن يصف نفسه بالمثقف.
ختاماً: الكلمة التي لا تُنصف، لا تشرّف صاحبها. والوطنية التي تبنى على إنكار الآخرين، ليست وطنية بل خيانة مغلفة بالشعارات.
الكرد باقون، رغم كراهيتكم، رغم إنكاركم، ورغم انحياز أقلامكم. باقون بتاريخهم، بلغتهم، بنضالهم، وبحقهم المشروع في وطن لا يُقصيهم، بل يعترف بهم.
وما لم تعترفوا بذلك، فأنتم لستم سوى ظلٍّ لعقلية أمنية لفظها الناس، لكنكم ما زلتم تتنفسونها.
والوطنية التي لا تتّسع للكرد، ليست وطنية. والكلمة التي تُبرر العنصرية، لا تستحق أن تُكتب. والرابطة، إن أرادت أن تبقى صرحاً للثقافة الحرة، فعليها أن تختار:
إما أن تدافع عن الإنسان وكرامته، أو أن تعترف بأنها خانت رسالتها.