إضاءة في الذكرى العشرين لاغتيال الشيخ الشهيد د. محمد معشوق الخزنوي

إبراهيم اليوسف

 

تحلّ الذكرى العشرون لاستشهاد الشيخ الدكتور محمد معشوق الخزنوي، الذي اختُطف من دمشق في العاشر من أيار 2005، ليُعلن عن وفاته ودفنه في مقبرة في دير الزور- جنوب كراج الانطلاق- بعد عشرين يومًا من القلق والتوتر والترقب، فيما الأمل لا يفارق وجوه أسرته ومحبيه. كان قد أعلم رفيقة دربه، بعد عودته إلى قامشلي، وهو يقدّم لها علبة “بقلاوة” أهديت إليه في دمشق، قائلًا:

“أتعرفين هذه العلبة؟ قُدّمت لي مقابل حياتي، لكني نجوت من إحدى العصابات.”

تلك كانت إشارة إلى محاولة سابقة لاختطافه، بحوالي أسبوع فحسب، مؤكّدٌ أنه استُدرج آنذاك عبر وجوه استغلّت مكانته الدينية والاجتماعية. لم يكن النظام ليرضى بصوته المتصاعد، فانقضّ عليه، ثم حاول تغليف الجريمة بطابع أيديولوجي أو عائلي جنائي، وقدّم أفرادًا لم أعد أتذكر عددهم على أنهم خاطفوه وأنهم من قتلوه، بحسب اعترافاتهم على التلفزيون الرسمي السوري. وربما كانوا أدوات حقيقية، وقتلة فعليين، أو ربما مجرد ستار.

لكن ما نعلمه يقينًا: أن الجريمة سياسية بامتياز. وأن التغطية لم  تفلح لأنها كانت منقوصة. وأن الشيخ كان قد أوصى- قبل استشهاده- بالتواصل مع شخصين إن هو تعرض لأي مكروه، هما: أنا، والصديق أ.فؤاد عليكو.

ما لبث إعلان استشهاده أن فجّر الغضب، فبعد أيام فقط، وتحديدًا في الخامس من حزيران*، دُعي إلى مظاهرة احتجاجية في قامشلي، سرعان ما تحولت إلى لحظة فاصلة. كنت ممن شاركوا رغم أنني لم أكن من منظميها، ولا من الداعين إليها، بل ولا من مشجعيها، بل كنت مترددًا في البداية، ليس – من جهة الحضور أو عدم الحضور- بل خوفاً على المشاركين، بسبب حساسية التوقيت. لكن التهديد الذي وُجه إليّ بعدم المشاركة كان كافيًا لدفع القرار نحو الميدان والمشاركة، لأني لا أقبل أن أكون بعيداً عن أي تضامن أو احتجاج على اغتيال الشيخ. المفارقة أن من بين الداعين من انسحبوا، بل ثمة من حاولوا إقناعي بالامتناع. ويتذكر الصديقان: هيبت معمو وأحمدي موسى، تلك المحاولة، وكانا من المشاركين في الوقفة الاحتجاجية، عن تيار المستقبل.

 عندما خرجت المظاهرة، وواجهتها قوات النظام بالرصاص الحي. سقط الجرحى. من بين هؤلاء ابن عم لنا، سيد رمضان حسن عبدو، من” قرية بلكا”. كما تم الاعتداء بوحشية على نساء كرديات كن قادمات من الحي الشرقي، للمشاركة في الوقفة، تم تجميعهن مقابل كافتيريا الموعد، وضُربن ضربًا مبرحًا. ما زالت بعضهن يحملن آثار ذلك العنف حتى اليوم، منهن: كلستان حسن صالح، هيلينا كردا، وغيرهن ممن لا تحضرني أسماؤهن الآن.

وقد تم استدعائي في خضم هذا التوتر، ومباشرة بعد المظاهرة، إلى دمشق، للتحقيق معي، واستمر التحقيق ستة عشر يومًا. لم يُنهِه سوى إقامة فعالية إحياء الذكرى السنوية الأولى في قامشلي، التي أصرّ على تنظيمها الصديق مشعل التمو، وتضامن معي فيها علنًا على منبر الاحتفال الصديق أحمد حيدر، باسم تيار المستقبل وكان الشهيد مشعل قد شارك ووجوه وأصدقاء منهم من يكيتي والتيار وآخرين ما عدت أتذكرهم، في الوقفة الاحتجاجية الأولى التي تمت في قامشلي21-5-2005

كنت قد نقلت- تعسفياً- إلى تربسبي لأدرّس في مدرسة فايز منصور، وهي خطوة في إطار النفي الوظيفي، بسبب مقالاتي العلنية في مواجهة النظام و الدفاع عن الشهيد. لم يطل الأمر حتى لحقتني المضايقات من موجهين وإداريين، وعلى رأسهم موجه اختصاصي وبعضهم من إدارة المجمع التربوي في تربسبي، ما اضطرني لمغادرة التعليم بعد سنتين، إثر حادثة ما تزال حاضرة في ذاكرة زملائي في مدرسة فايز منصور، و أصدقاء مقربين في تربسبي منهم الصديق سليمان خالد.

كل هذا كان نتيجة طبيعية مباشرة لموقفي: لقد رفضتُ الرواية الرسمية التي أرادت طمس الجريمة، وواجهتها علنًا، وساهمت بتشكيل لجنة أصدقاء الشيخ معشوق الخزنوي التي انضم إليها أ. حسن صالح -فؤاد عليكو- عبدالصمد داود- الملا محمد الغرزي، ثم منتدى الشيخ الشهيد محمد معشوق الخزنوي، ولاحقًا جائزة الشيخ الشهيد الخزنوي.

بل سعيتُ، رغم المخاطر، إلى جمع بعض من آل الخزنوي، وكان من بينهم موفد حزب يكيتي، الصديق فؤاد عليكو، في محاولة لرأب الخلاف داخل العائلة، وكنت أؤمن أن القضية أكبر من الخلافات، وأن الشيخ لم يكن ملك أسرة، بل رمزًا عامًا. عُقد أول لقاء بين “يكيتي” وأنجال الشيخ الشهيد في منزلي، بحضور أصدقاء له، ثم تدخل لاحقًا الشهيد مشعل التمو لتوسيع دائرة التفاهم.

وحين رفضتُ لاحقًا “دعوة لشرب فنجان قهوة”  ومن ثم: استدعائي المتكرر، من جهة أمنية، تم أخذي من منزلي- موجوداً- بسيارة تابعة لتلك الجهة. في تلك الفترة، أصدرت” منظمة داد” بيانًا تضامنيًا، وكذلك فعل جهاد صالح باسم رابطة المتاب والصحفيين ومنظمة حقوق الإنسان في سوريا-ماف، فيما أعدت قيادة تيار قاسيون بيانًا مسبقًا تحسبًا لاعتقالي. توسط حينها الصديق مسعود ديواني لدى فارس عنز، الذي توسط بدوره لدى صديق له، وكان فحوى الرسالة: “لأجل إنهاء التحقيقات التي أخضع لها”، وتم ذلك.

أتذكر أيضًا، أن أحد المحامين من الرقة طرق بابي ذات يوم، وعرّف نفسه بصفته وكيلًا للمتهمين بقتل الشيخ الشهيد، وطلب مني إقناع نجله بالتنازل لإطلاق سراحهم، قائلًا: “بما أنك تكتب دائمًا أن النظام هو القاتل، ساعدنا في إغلاق الملف.”
رفضت بشدة، ثم اتصلت بأسرة الشيخ، لأعلمهم بالأمر، وكان جوابهم: لقد حاول التواصل بنا، من قبل فرفضنا طلبه، و لن نتنازل، وقد أعلمني الشيخ عبدالقادر خزنوي أنه اتصل به، فرفض طلبه**

قلت له:

“لن أبرّئ أحدًا، فقد يكون هؤلاء: الأدوات، فحسب، لأن النظام هو المسؤول الأول والأخير عن خطف رجل في وزن الشيخ، من قلب العاصمة، دون أن يجرؤ أحد على إخبار الناس بالحقيقة.”

كل هذه التفاصيل وثقتها في مقالاتي، التي جمعتها لاحقًا في كتابي: “اغتيال كوكب: إضاءة على  سيرة واختطاف واغتيال الشيخ محمد معشوق الخزنوي”، والذي تصدر اليوم طبعته الثانية، بمقدمة من نجله الدكتور مرشد الخزنوي، ومتوفر قريبًا ورقيًا وإلكترونيًا.

إنني أكرر السؤال:

من الذي أطلق الرصاص في قامشلي؟

من أمر بضرب النساء؟

من كان أول من نشر الإشاعة عن “جهات مجهولة”؟

أين المتهمون الذين قدمهم النظام؟ هل هم في سوريا؟ في أوروبا؟ ولماذا لا نعرف أسماءهم؟

في ذكرى هذا الكوكب الذي خُطف من سمائنا، لا نملك إلا أن نكتب.
لأننا حين نسكت، نرتكب الجريمة الثانية.

 

* طرح الفكرة أ. بشار أمين ووافق على الفكرة أ. فؤاد عليكو. الشهيد مشعل- الاتحاد الديمقراطي. الوفاق، للعلم أن الأخيرين لم يشاركا، بعد التهديدات التي تم تلقيها، كما يبدو.

** مؤكد أن متابعة ملف الشيخ الشهيد ستظهر اسم المحامي الرقي المذكور.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 Comment
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
سيامند ميرزو
سيامند ميرزو
6 شهور

لروحه الرحمة والمجد والخلود والطغاط ذهبوا إلى مزبلة التاريخ

اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…