خوشناف سليمان ديبو
لم تكن الثورة السورية التي اندلعت عام 2011 مجرد حراك عفوي في مواجهة نظام سلطوي، بل شكّلت تتويجاً لتراكم طويل من سياسات القمع والتهميش والإقصاء التي انتهجها نظام الأسد الأب، ثم الابن من بعده، لا سيما ضد المكونات المجتمعية التي ظلت خارج دائرة التمثيل السياسي الفعلي.
منذ استيلاء حزب البعث على السلطة عقب انقلاب عام 1963، بدأت تتبلور معالم نظام حكم مركزي قائم على تحالف أمني–عسكري ضيق، اتّسم بتركيبة طائفية غير متوازنة تصدّرت فيها النخبة العلوية مفاصل القرار السياسي والعسكري. وقد ساهم هذا النموذج في تعميق التهميش الاجتماعي والسياسي لفئات واسعة من السوريين، وأدى إلى تعاظم الشعور بالاغتراب عن الدولة المركزية.
في هذا السياق، شكّلت انتفاضة الكُرد في مدينة قامشلو عام 2004، وما تلاها من احتجاجات في مناطق أخرى ذات غالبية كردية، مؤشراً مبكراً على عمق الاحتقان المتراكم. وكشفت هذه التحركات هشاشة النموذج السلطوي القائم، وكانت بمثابة جرس إنذار لانفجار وشيك على مستوى الدولة والمجتمع.
ومع اندلاع الحراك الشعبي الواسع في عام 2011، بلغت الأزمة ذروتها، حيث برزت بشكل جليّ الاختلالات البنيوية في مؤسسات الدولة التي افتقرت إلى الشرعية الشعبية والتمثيل المتوازن. ومع تراجع سيطرة النظام على العديد من المناطق، بدأت ملامح تفكك الدولة المركزية بالظهور، وتجلّت في بروز أنماط حكم محلية في ظل الفراغ السياسي والإداري المتزايد.
غير أن المسار الثوري، الذي بدأ سلمياً رافعاً شعارات العدالة والكرامة، تعثّر سريعاً تحت وطأة القمع الوحشي، وتحول إلى صراع مسلح استدرج قوى إقليمية ودولية، ما أفقد الثورة استقلاليتها وشوّه أهدافها. ونتيجة لذلك، تم تهميش صوت الشعب في خضم فوضى السلاح وتشابك المصالح الإقليمية والدولية، وتحولت سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات بين أطراف متعددة.
إن أزمة الدولة السورية لم تكن ناتجة عن الاستبداد فحسب، بل تعكس أيضاً فشل النموذج المركزي الأحادي الذي تجاهل التعددية الثقافية واللغوية والإثنية. فبدلاً من بناء إطار سياسي عادل وتمثيلي، عزز هذا النموذج مشاعر الإقصاء، ومهّد الطريق لانفجار مجتمعي وصراع مفتوح.
تمتاز سوريا بتركيبتها السكانية المتنوعة؛ حيث يشكّل العرب السنّة نحو ثلثي السكان، إلى جانب الكُرد (حوالي 15%)، إضافة إلى العلويين والدروز والمسيحيين وسواهم من المكونات. غير أن هذا التنوع لم يجد انعكاساً في بنية الدولة، التي تأسست على نموذج قومي مركزي فرض هوية أحادية على مجتمع تعددي. وقد كشفت الحرب السورية مدى هشاشة هذا النموذج، خصوصاً مع تآكل السلطة المركزية وظهور أنماط حكم محلية تعبّر عن الخصوصيات المجتمعية المختلفة.
في الشمال الشرقي من البلاد، أنشأت القوى الكُردية، من خلال “الإدارة الذاتية”، مؤسسات مدنية وأمنية ذات طابع مستقل، رغم الجدل المستمر حول مشروعيتها وتمثيلها. أما في الجنوب، فقد اعتمدت المناطق ذات الغالبية الدرزية سياسة “الحياد المسلح” كموقف دفاعي للحفاظ على تماسكها الداخلي. في المقابل، بقي الساحل العلوي مرتبطاً عضوياً بالنظام، بوصفه الحصن الأخير لضمان بقائه.
وعليه، فإن ما شهدته سوريا منذ عام 2011 وحتى سقوط النظام في أواخر عام 2024، يعكس أزمة وجودية لمفهوم الدولة المركزية. وهو ما يفرض إعادة نظر جذرية في العقد السياسي المؤسس للدولة السورية، عبر تبنّي نموذج يعترف بالتعددية ويضمن تمثيلاً عادلاً لكافة المكونات في بنية السلطة.
نحو عقد اجتماعي جديد: الفيدرالية كمسار لإعادة البناء
في هذا السياق، تطرح الفيدرالية نفسها كإطار بديل قادر على إعادة بناء الدولة بما يتناسب مع واقعها التعددي، لا كخطر على وحدة البلاد. فالفيدرالية تتيح مشاركة أوسع في صنع القرار، وتؤسس لتوزيع عادل للسلطة والثروة، بما يعزز من تماسك الكيان الوطني.
غير أن نجاح هذا الخيار يظل مشروطاً بتوافق وطني واسع النطاق، ورؤية سياسية جامعة تؤسس لدولة ديمقراطية تقوم على قيم الشراكة والعدالة. وتستمد الفيدرالية مشروعيتها من تعقيدات الواقع السوري، حيث أثبتت السنوات الأخيرة فشل النموذج المركزي في إدارة هذا التنوع.
في هذا الإطار، تبرز تجربة “الإدارة الذاتية” في شمال شرق سوريا كنموذج محدود للامركزية، رغم ما تواجهه من تحديات بنيوية وانتقادات تتعلق بالتمثيل والتفرد في القرار. إلا أن هذه التجربة المدعومة جزئياً دولياً، قدّمت نموذجاً مختلفاً لإدارة المناطق، يمنح الفيدرالية بعض الشرعية كخيار قابل للتوسع في حال إدراجه ضمن إطار دستوري واضح وشفاف.
مع ذلك، لا يقف النقاش عند حدود الفيدرالية، إذ تُطرح في الأوساط الفكرية بدائل أكثر راديكالية، مثل الكونفدرالية، التي تقوم على اتحاد كيانات شبه مستقلة. ورغم انسجام هذا النموذج مع بعض ملامح الواقع الحالي، إلا أنه ينطوي على مخاطر حقيقية، أبرزها احتمال تفكك الدولة واندلاع نزاعات حدودية، فضلاً عن تعميق التدخلات الإقليمية.
بناءً على ما تقدم، تبقى الفيدرالية الخيار الأكثر واقعية وملاءمة لإعادة تأسيس الدولة السورية، نظراً لقدرتها على تحقيق توازن بين الحفاظ على وحدة البلاد واستيعاب تنوعها الإثني والثقافي. إنها ليست مجرد خيار إداري، بل مشروع سياسي شامل يهدف إلى تجاوز منطق الإقصاء والهيمنة، ويؤسس لنظام ديمقراطي تعددي يضمن الشراكة الفعلية في صنع القرار وتوزيع الموارد.
ويتطلب هذا المشروع تهيئة بيئة سياسية واجتماعية ملائمة، تقوم على إعادة بناء الثقة بين المكونات، والتوافق على عقد اجتماعي جديد يعكس تطلعات السوريين كافة، بدعم دولي مستقر يضمن التطبيق الفعلي. وفي هذا الإطار، يمكن تصوّر تطبيق تدريجي للفيدرالية برعاية دولية، من خلال منح صلاحيات موسعة للمناطق ضمن إطار دستوري توافقي، مدعوم بإرادة وطنية ومساندة دولية تهدف إلى تحقيق استقرار دائم في سوريا ما بعد الحرب.
وعليه، يمكن اعتبار الفيدرالية أداة لإعادة تأسيس الدولة السورية وإنقاذها من دوامة التفكك، وفتح أفق جديد لوطن يتّسع لجميع أبنائه، على قاعدة الاعتراف بالتنوع، وضمان الشراكة، وتحقيق التوازن البنيوي بين المركز والأطراف.
…