هذه الحقيقة التاريخية غابت عن أعين الأتراك الطورانيين الذين لفظتهم مناطقهم الأصلية فزحفوا إلى هذه المنطقة وتمكنوا بما كانوا يمتلكون من قوة وبطش ودهاء أن يؤسسوا إمراطورية مترامية الأطراف تحت اسم الخلافة الإسلامية العثمانية ولذلك فلم يدخروا جهدا ووقتا ولم يوفروا بطشا وقمعا و قتلا قل نظائره في التاريخ من أجل تحقيق جملة من الغايات الدنيئة والعنصرية والبشعة منذ أن فرضوا سيطرتهم على شعوب هذه المنطقة من كرد وأرمن وعرب وغيرهم ولكنهم لم يفلحوا فيما كانوا يصبون إليه من بناء دولة لا وجود فيها سوى العنصر التركي ولم يتمكنوا من تحقيق مآربهم الخبيثة واللا إنسانية هذه لان إرادة الشعوب المحبة للحرية لا يمكن أن تقهر أو تهزم مهما مورست بحقهم من جرائم وارهاب وبالتالي فالأتراك لم يفوزوا من ما أقدموا عليه من أعمال مشينة وارهابية بحق الشعوب غير التركية سوى بتلويث تاريخهم بالعار والهمجية والعنصرية كما ظلت أعمالهم الإجرامية والبشعة بحق الشعوب التي ابتليت بهم ووقعت تحت سيطرتهم تلاحق قاداتهم ورؤساءهم حتى هذه اللحظة نخص منها بالذكر مذبحة الأرمن التي دبرها الأتراك العثمانيون في مطلع القرن الفائت بسابق تخطيط ودراسة كانت بلا شك نابعة من حقد دفين ضد كل من هو ليس بتركي وكما كانت تهدف إلى ضرب البعض بالبعض وزرع الشقاق بين المكونات غير التركية وخاصة بين الكرد والأرمن, وفي سياق ذلك وتحت يافطة إسلامية مفبركة تمكن الأتراك من جر بعض الأفراد المارقين والسذج ممن ينتمون شكلا لا مضمونا وأصالة وحضارة إلى الشعب الكردي في تنفيذ أبشع مذبحة بحق الشعب الأرمني المسالم بهدف الإيقاع بين الشعبين الأكثر صديقين وحميمين عبر التاريخ والاستفراد بكل منهما على حدة وهذا ما حصل فعلا في الجانب الكردي أيضا في الحقب اللاحقة.
استفاد الأتراك من الظرف الدولي المستجد في مطلع القرن الفائت وانشغال البشرية بخطر الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في عام 1914 ومن إقحام الدين الإسلامي البريء من الإرهاب بكل أشكاله في واحدة من أقذر وأخطر المذابح بحق شعب مسالم وآمن وبريء.
كان ذلك في الرابع والعشرين من نيسان من عام 1915 ذهبت ضحيتها أكثر من مليون ونصف المليون من أبناء الشعب الأرمني دونما ذنب يستحق الذكر وهنا يبغي أن لا يفوتنا القول بان الغالبية الساحقة من أبناء الشعب الكردي في كردستان تركيا تطوعوا بدافع إنساني وأخوي أثناء تلك المحنة الأليمة لحماية الكثير من أبناء الأرمن وإخفاءهم في بيوتهم وبين عوائلهم وأسرهم وتقديم كل أشكال العون والمساعدة لهم رغم كل الفرمانات والتهديدات والإنذارات التركية التي كانت تساوي بين الأرمني وبين كل من يتعاطف معه أو يخفيه أو يحميه أو يساعده مهما كانت شكل هذه المساعدة.
بعد ذلك التفت الأتراك إلى الشعب الكردي في كردستان تركيا وبدءوا في تنفيذ الشق الثاني من مخططاتهم المشينة للتخلص من اللو كما اعتقدوا بأنهم تخلصوا من الزو ولذلك فلم يتورعو من ممارسة شتى أشكال القمع والقهر والإبادة بحق الشعب الكردي وأمعنوا كثيرا في استباحة قراه ومدنه وسهوله وجباله على مدار عقود عديدة وأتبعوا في كردستان سياسة الأرض المحروقة السافرة وأزالوا آلاف القرى الكردية من الوجود وقتلوا واغتالوا وأعدموا ما لا يمكن إحصاءه من المناضلين والوطنيين الكرد وزجوا بالآلاف منهم في السجون والمعتقلات وظلوا إلى وقت قريب ينكرون حتى وجود شعب كردي في كردستان تركيا بل كانوا يسموه بأتراك الجبال إلى أن اضطروا منذ زمن ليس بالطويل التخلي عن مثل هذه التسميات المزورة التي لا تمت إلى الحقيقة بأي صلة والاعتراف بواقع الشعب الكردي الذي بات التغاضي عنه ضربا من الوهم والمستحيل لكنهم لا زالوا يديروا ظهرهم للمستحقات الواجبة لقضية الشعب الكردي في كردستان تركيا والذي يزيد تعداده على خمسة وعشرين مليون نسمة أضف إلى ذلك بأن تركيا لا زالت ترسل طائراتها الحربية لقصف الجبال الكردية الشاهقة (جبال قنديل) بالقنابل والصواريخ فضلا عن إن جيشها المدجج بالسلاح يجتاح بين كل فترة وأخرى كردستان العراق بذريعة ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذي تصفه تركيا وبعض الدول الأخرى زورا بالإرهاب إلى درجة مساواته بتنظيم القاعدة مع العلم إن حزب العمال قد أبدى استعداده مرارا للجلوس إلى طاولة الحوار وحل النزاع القائم بينه وبين أنقرة على خلفية القضية الكردية في كردستان تركيا بالطرق السلمية والتفاوضية لكن القيادة التركية ترفض ذلك في كل مرة علنا وتصر دائما على الحل العسكري الذي هو الإرهاب بعينه وخاصة إنه أثبت بما لم يترك مجالا للشك عدم جدواه.
سعت تركيا كثيرا وبكل ما تملكه من قوة وآلة عسكرية وجيش للهروب من ملف القضية الكردية بل ومن كل شيء اسمه كردي ففشلت واضطرت أخيرا للاعتراف بالوجود القومي للكرد وإجراء بعض الإصلاحات الطفيفة في هذا المجال ومن المؤكد إنها ستضطر لفعل الأكثر نحو حل القضية الكردية في كردستان تركيا لان التاريخ يخضع في نهاية المطاف لإرادة الشعوب كما ستضطر أيضا الإقرار بمذبحة الأرمن مهما حاولت التملص منها والتمسك بالاقتراحات غير المجدية ومن ثم الاعتذار للشعب الأرمني وتعويضه عن الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي أسفرت عن تلك المذبحة المروعة التي باتت من الصعوبة بمكان التغاضي عنها في ظل المطالبات الدولية الراهنة وتمسك الأرمن المستمر بحقهم المشروع والإنساني وفي هذا السياق ولكي لا يفوتنا القول فإن الشعب الأرمني برمته وعلى امتداد تواجده يحيي في شهر نيسان من كل عام ذكرى هذه المذبحة الأليمة.
ما ارتكبته الطورانية التركية بحق الشعب الأرمني أو الشعب الكردي المسالمين من جرائم ومذابح ومظالم أو بحق غيرهما من الشعوب التي وقعت تحت سيطرتها في الحقب الماضية إن دل على شيء فإنما يدل على همجية ووحشية فظيعة ومتناهية أو من ذات العيار الثقيل جدا إذا صح هذا القول وهذا ما جعل الأمهات في أروربا خاصة وإلى وقت قريب أن ترعب أطفالهن بهدف حضهم على النوم من خلال القول: جاءك التركي وبالتالي فمن غير المتوقع أن تصوت الشعوب الأوربية على انضمام تركيا للاتحاد الأوربي الذي تسعى إليه تركيا منذ زمن بعيد عندما يتحول الأمر إليها وهو أمر لا بد منه في القارة الأوربية ما لم تحسن تركيا من سلوكها وتعمل على تسوية مجموعة من القضايا العالقة والهامة منذ زمان بالطرق السلمية وبما يتفق ويتناسب مع روح العصر ويحقق العدل والمساواة والتعايش البناء والحضاري بين مجموع الشعوب داخل الكيان التركي.
من أهم وأبرز تلك القضايا قضية الأرمن وقضية الشعب الكردي وقضايا حقوق الإنسان عموما.
ذلك لان كلام الفصل النهائي في مثل هكذا قضية تبقى من شأن الشعوب الأوربية لا من شأن الساسة والقادة كائنا من كان والذين قد ينجرون إلى الأخذ بمواقف لا تعبر إلا عن مصالح سياسية آنية وعابرة.
باختصار فان مآسي الأرمن لا يمكن محوها من ذاكرة التاريخ وخاصة من ذاكرة الشعب الأرمني الذي جرحته الطورانية التركية في غفلة من المجمع الدولي أواسط العقد الثاني من القرن الماضي جروحا يندى لها الجبين وتقشعر لها الأبدان ولا يمكن أن تبقى تلك المآسي والجروح عالقة إلى ما لا نهاية مهما حاولت تركيا الهروب منها أو تناسيها أو مهما جرى من اتفاق بين القيادة السياسية في أرمينيا والقيادة في أنقرة إذ لا يمكن أن تستقيم حياة الشعوب المتعددة في تركيا وفي غيرها من الدول خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تتعدد فيها الشعوب المظلومة والمحرومة من حقوقها ما لم تأخذ العدالة مجراها وما لم تداوى الجروح المفتوحة وتزال المظالم القديمة والحديثة وما لم تعود الحقوق إلى أصحابها غير منقوصة وتتحقق المساواة على قاعدة الاحترام المتبادل ونبذ كل أشكال الهيمنة والسيطرة والاستعلاء القومي وإنكار الآخر المختلف وبما يضمن ويعزز التعايش الأهلي والسلمي والأخوي بين جميع المكونات والانتماءات المختلفة داخل هذه الدولة أو تلك.