ريزان شيخموس
بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول 2024، تولّت السلطة الانتقالية إدارة البلاد بشكل كامل، وسط آمال عريضة بأن تكون هذه اللحظة بداية حقيقية لبناء دولة مدنية شاملة. لكن بعد مرور خمسة أشهر، تتراكم خيبات الأمل وتصاعدت المؤشرات على أن البلاد تتجه نحو شكل جديد من الحكم السلطوي، يُعيد إنتاج ممارسات الإقصاء والسيطرة، لكن بأدوات جديدة وتحت مسميات مغايرة. ما كان يُفترض أن يكون لحظة بدء في صياغة عقد اجتماعي جديد، أصبح مسارًا سريعًا نحو احتكار السلطة وتمركزها، مع تهميش متعمد للمكونات الأساسية في المجتمع السوري.
الإدارة الانتقالية منحت نفسها سلطة غير محدودة لاتخاذ قرارات مصيرية، دون وجود أي ضوابط قانونية أو رقابة مؤسساتية. القرارات المتخذة منذ توليها السلطة شملت حل الجيش السوري بالكامل، دون توفير بدائل وطنية واضحة، رغم أن المطلوب كان فقط إعادة هيكلة الفرق المسيئة وإقالة الضباط المتورطين في جرائم بحق السوريين. كما تم تفكيك جهاز الشرطة، وإقالة آلاف الموظفين المدنيين، ليس بسبب ضعف الكفاءة أو الأداء، بل بناء على خلفياتهم الطائفية أو القومية، ما أسس لشعور عام بالظلم والإقصاء، وزاد من احتمالات تفكك المجتمع، وانهيار الثقة المتبادلة بين السلطة والمواطنين.
القيادة العسكرية باتت اليوم حكرًا على تشكيلات عسكرية محددة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، إلى جانب مقاتلين أجانب لا تربطهم أي علاقة فعلية بالمشروع الوطني السوري. هؤلاء لم يأتوا لنصرة الشعب السوري، بل جاؤوا بدوافع أيديولوجية تكفيرية، تُشكل خطرًا مباشرًا ليس فقط على وحدة سوريا، بل على السلطة ذاتها التي تستعين بهم. الأسوأ من ذلك أن هناك مساعي لتجنيس بعض هؤلاء الأجانب، وهو ما يُنذر بتحول خطرهم من تهديد أمني إلى أزمة وجودية تمس النسيج الوطني السوري، وتمس مستقبل الحكم ذاته، وتهدد الدول المجاورة بشكل مباشر.
السلطة لم تكتفِ بإقصاء الكفاءات الوطنية من مؤسسات الدولة، بل عمدت إلى تشكيل أجهزة موازية تتغول على الوزارات، من خلال ما يسمى بـ”الهيئة السياسية”، التي وزعت ممثلين عنها في كل وزارة، ما خلق حالة من التداخل المربك: من يملك القرار؟ الوزير أم ممثل الهيئة؟ هذا التداخل يقوض مبدأ الفصل بين السلطات، ويُعمّق مناخ غياب الشفافية والمحاسبة. في هذا السياق، جاء الإعلان الدستوري ليكرّس مزيدًا من السلطوية، إذ يمنح الرئيس الانتقالي صلاحيات مفتوحة، من دون توازن سلطوي أو آليات رقابية، ويغيب فيه أي التزام واضح بمبادئ الديمقراطية أو حماية الحقوق المدنية والسياسية.
سياسة التخوين طالت معظم مكونات المجتمع السوري. الطائفة العلوية تُتّهم بالارتباط بالنظام السابق وتُقصى من مؤسسات الدولة، بينما يُتّهم الدروز بالتواصل مع الخارج ويُكفَّرون علنًا في بعض المنابر التابعة للسلطة. أما الكرد، الذين دعوا مرارًا إلى شراكة وطنية عادلة، فقد واجهوا تحريضًا إعلاميًا متواصلًا، بلغ ذروته عقب مؤتمر وحدة الصف الكردي، حين أصدرت رئاسة السلطة بيانًا رسميًا يطعن في المؤتمر ويخوّن المشاركين فيه، في تناقض واضح مع ادعاءات الانفتاح والحوار.
في هذا السياق، تقوم بعض الأطراف القريبة من السلطة بشيطنة المكونات السورية واتهامها بالاستقواء بالخارج، بينما تتناسى أن السلطة نفسها مارست هذا الاستقواء منذ اليوم الأول لتوليها الحكم، عبر توجيه رسائلها للخارج وتجاهل الداخل، وعبر اعتمادها على المقاتلين الأجانب الذين يشكلون خطرًا حقيقيًا على البلاد، فضلًا عن التواصل العلني مع إسرائيل، وهو ما أعلنه رئيس السلطة الانتقالية صراحة في فرنسا. هذا النهج يُناقض أي مشروع وطني جامع، ويفتقر لأبسط معايير السيادة الحقيقية، التي لا يمكن تحقيقها دون الانفتاح المتوازي على الداخل، بكل مكوناته، قبل الخارج.
السلطة مددت الفترة الانتقالية من عامين إلى خمس سنوات دون أي مبرر واضح، ما أثار شكوكًا جدية حول نواياها الحقيقية، وأوحى بأن الأولوية لدى بعض القيادات ليست بناء سوريا، بل ضمان بقائهم في مواقعهم. وبسبب غياب الشفافية والمؤسسات الرقابية، أصبحت السلطة وسيلة للحفاظ على النفوذ، لا أداة لإعادة بناء الدولة المنهكة.
المطالب الدولية اليوم ليست بعيدة عن مطالب السوريين أنفسهم، بل تتطابق معها بشكل لافت. بناء جيش وطني غير مؤدلج، مؤسسات شفافة، عدالة انتقالية، التزام حقيقي بفصل الدين عن الدولة، احترام التعددية، إنهاء الإقصاء، والتمثيل العادل لكل المكونات دون تمييز. كما أن المطالب الدولية تُحذّر من خطر المقاتلين الأجانب وتجنيسهم، وتدعو إلى إنهاء وجودهم، لأنهم يشكلون خطرًا مباشرًا ليس فقط على الأمن السوري، بل على السلطة القائمة، وعلى النسيج الوطني، وعلى استقرار دول الجوار التي لن تبقى بمنأى عن نتائج الفوضى إن تُركت الأمور على حالها. الاستجابة لهذه المطالب ليست خضوعًا، بل تعبير عن التقاء الإرادة الوطنية مع متطلبات الأمن والاستقرار الإقليمي، وهي في جوهرها استحقاقات تأخرت كثيرًا.
العودة إلى الحاضنة العربية لم تعد خيارًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية. فالعالم العربي، رغم كل تعقيداته، هو الفضاء الطبيعي لسوريا، وهو الذي لا يحمل أجندات خفية، بل يؤكد مرارًا أن مصالح الشعب السوري واستقراره فوق كل اعتبار. المطلوب ليس فقط عودة رمزية، بل انخراط فعلي في مشروع إعادة التوازن إلى الدولة السورية، بمشاركة عربية تضمن وحدة الأراضي، وتعيد للمؤسسات طابعها الوطني، وتحفظ التنوع، وتحاصر خطر الإرهاب والتطرف.
لم تعد هناك أي شرعية لأي مشروع يُقصي نصف المجتمع أو يحكم بمنطق الانتصار العسكري. البلاد لا يمكن أن تُحكم من لون سياسي أو مذهبي أو قومي واحد. بناء سوريا الجديدة لا يمكن أن يتم إلا بإعلان دستوري يمثل الجميع دون استثناء، وبحكومة انتقالية جامعة، تفتح المجال الحقيقي للشراكة والمشاركة، وتُنهي منطق التخوين والتكفير والإقصاء.
الوقت يضيق، والمسؤولية جسيمة. أمامنا فرصة أخيرة لتفادي حرب أهلية باتت تلوح في الأفق، تهدد سوريا والمنطقة برمّتها. التصحيح ممكن، لكن يتطلب إرادة صادقة، وحوارًا وطنيًا حقيقيًا لا يُقصي أحدًا، ولا يُدار بمنطق الغلبة أو التحايل السياسي. سوريا اليوم بحاجة إلى دولة مدنية، لا طائفية ولا دينية، لا يُشترط فيها انتماء ديني لتولي الرئاسة أو أي منصب سيادي، بل تُبنى على المواطنة الكاملة لكل أبنائها.
إما أن نبدأ بهذا التحول الآن، وإما أن نخسر الفرصة الأخيرة، ونترك البلاد لمصير مظلم لن يرحم أحدًا.