خيري بوزاني
لقد توقّف إطلاق النار، أعلن حزب العمال الكوردستاني عن قراره المفصلي: وضع حدٍّ للكفاح المسلّح، وتفكيك بنيته التنظيمية التي اعتشت على البندقية لأكثر من أربعين عاماً. لم يكن هذا الإعلان صرخة استسلام كما قد يُخيَّل للبعض، بل بدا كمن يطوي صفحة مليئة بالألم والرصاص ليكتب، ولو على استحياء، سطراً أولاً في دفتر السياسة.
قرارٌ كهذا لا يُولد في العراء، ولا يسقط من السماء دون سياق. فالحزب، في السنوات الأخيرة، بدا وكأنه شيخٌ تعب من صعود الجبال، تنهشه الانقسامات، وتتآكل أطرافه بفعل التحوّلات الداخلية العميقة. لم يعد الخطاب الأيديولوجي القديم قادراً على اجتذاب الأجيال الجديدة من الكورد، أولئك الذين ضاقوا ذرعاً بلغة السلاح، وراحوا يبحثون عن مستقبلهم بين الجامعات ومواقع التواصل، لا بين الألغام والخنادق.
في الخارج، لم تكن الصورة أفضل. تركيا، الخصم الأزلي، لم تعد تلعب بذات الأدوات القديمة، بل استعانت بتكنولوجيا عسكرية ومعلوماتية متقدّمة، جعلت حتى الجبال، التي كانت ملاذاً آمناً، مكشوفة ومراقبة من السماء. وفي الوقت ذاته، انحسر المدّ الدولي الذي كان يتعاطف نسبياً مع القضية الكوردية، مع تصنيف الحزب على قوائم الإرهاب في أغلب عواصم الغرب، ومع تغيّر لغة الحرب الباردة إلى لهجة مكافحة التطرف بكل أشكاله.
ورغم أن البيان الصادر عن الحزب جاء مغلّفاً بغلاف لغوي غامض، إلا أن ما بين سطوره كان واضحاً كالشمس بعد الضباب: هناك رغبة حقيقية – أو هكذا يبدو – في الانتقال من لغة الرصاص إلى لغة الحوار. الكوردستاني يحاول أن يخلع عباءة الحرب، ويرتدي سترة مدنية تُتيح له دخول صالونات السياسة من أبوابها الرسمية، دون أن يُفتَّش في كل مرة عن آثار البارود على يديه.
غير أن هذا المسار ليس مفروشاً بالورود، ولا يخلو من ألغام كامنة. فمن قلب الحزب قد تنبثق فصائل رافضة، متمسكة بالبندقية كأنها ميراث مقدّس، ترفض أن تضع السلاح وتفقد بذلك هويتها المتجذّرة في الجبال. وهناك أيضاً سؤال مؤلم عن مصير الآلاف من المقاتلين الذين كبروا في حضن العمل المسلح: من يُعيد تأهيلهم؟ من يُعلّمهم لغة الحياة بعد أن أتقنوا لغة الموت؟ هذا التحوّل يحتاج إلى ما هو أكثر من قرار؛ يحتاج إلى بنية دولة ومجتمع، إلى عفو ومصالحة، إلى طبابة نفسية، وإلى تعليم وفرص عمل تضمن كرامة الإنسان الذي حمل السلاح يوماً، لا بدافع الإجرام، بل بدافع الحلم.
وفي موازاة هذا التحوّل، تهتز خرائط النفوذ في مناطق مثل قنديل وسنجار، حيث لطالما كان الحزب لاعباً أساسياً. انسحابه منها قد يفتح الباب لصراع جديد على من يملأ هذا الفراغ، بين تركيا الساعية لضبط حدودها الجنوبية، وإيران التي لا تُفوّت فرصة لبسط نفوذها، والفصائل المحلية التي تنتظر لحظة الارتباك لتفرض وجودها.
ومع كل هذا، يبقى اسم عبد الله أوجلان، الزعيم المعتقل منذ أكثر من عقدين، حاضراً كظل طويل في ظهيرة القرار.
رغم صمته القسري، فإن التحوّل الحالي يتناغم إلى حدٍّ بعيد مع رؤاه السابقة، التي طالما دعت إلى المزج بين النضال السياسي والثقافي والاجتماعي، في محاولة للانتقال من صراع الهويات إلى حوارها. وكأن القرار، رغم أنه لم يصدر عنه مباشرة، ينبت من تربة أفكاره القديمة.
أما على الجانب الغربي من الخريطة، فإن العواصم الأوروبية والأميركية تتابع المشهد بعيون حذرة، خصوصاً أن الآلاف من الكورد المرتبطين بالحزب يقيمون على أراضيها تحت لافتة اللجوء السياسي. هل ستُفتح ملفاتهم من جديد؟ وهل ستُراجع واشنطن علاقاتها مع وحدات حماية الشعب في سوريا، المرتبطة بالحزب تنظيمياً؟ هذا التحوّل قد يحمل في طياته تأثيرات تمتد من جبال قنديل إلى ضفاف الفرات.
لكن اللحظة – رغم كل ما فيها من ارتباك – تظل فرصة تاريخية نادرة، تقف فيها القضية الكوردية – في تركيا – على مفترق طرق حقيقي. إما أن تختار طريق السلام، فتنتقل من الجبال إلى البرلمانات، ومن الرصاص إلى القوانين، أو أن يُجهض التحوّل تحت ثقل الشكوك والارتدادات الداخلية والخارجية، فيعود الصوت للبندقية مجدداً.
تجارب العالم تقول إن التحوّل ممكن، وإن الحركات المسلحة حين تتخلى عن السلاح وتعيد بناء نفسها كحركات سياسية، لا تضعف بالضرورة، بل قد تكتسب شرعية أقوى وأثراً أعمق، كما حدث مع الجيش الجمهوري الإيرلندي، وحركة “إيتا” الإسبانية.
ومع أن القرار لم يكن مفاجئاً تماماً، نظراً لتراكم المؤشرات في السنوات الأخيرة، إلا أنه يظل لحظة نادرة تستحق التوقّف. لحظة فيها شيء من نهاية رواية وبداية فصل جديد، غير مضمون النتائج.
والسؤال الأكبر الآن: هل ستُكتب قصة السلام هذه المرة بحبر الوعي، لا بدم الطلقات؟ وهل سيُسمع أخيراً صوت الكلمات بعد أن أسكتت البنادق طويلاً؟ الجواب لا يزال في رحم الأيام، ينتظر من يملك شجاعة الحلم وسعة أفق السياسة.
============
روداو