خالد حسو
منذ أكثر من ستين عامًا، وسوريا تُقاد إلى المقصلة، حافية، مقيّدة، وملفوفة بالعلم الوطني كما تُلفّ الجثث بالكفن.
عقودٌ من البؤس، نُكّل فيها بالناس كما تُنكل الذئاب بأجساد الخراف:
بطشٌ مُمَنهج، تعذيبٌ في السراديب، إخفاءٌ خلف قضبان لا شمس فيها، إعدامات صامتة، إبادة جماعية مكتومة، تغيير ديموغرافي يُدار على مهل، وكأن الأرض تُفرَغ من سكانها بالتقسيط.
كل ذلك لم يكن عابرًا، بل سياسة.
لم تكن حربًا على الإرهاب، بل حربًا على الذاكرة، على الإنسان، على الصوت الحر.
تم اجتثاث المدن كما تُجتث الأشجار، وهُجِّر الملايين كما يُفرَّغ الوادي من مياهه.
قُسّمت سوريا بين المحتلين، وكأنها غنيمة، وكأن الدم الذي سال فيها لم يكن عربيًا، كرديًا، آشوريًا، شركسيًا، درزيًا، إسماعيليًا، سنيًا، شيعيًا، مسيحيًا… بل مجرد لون في نشرة الأخبار.
اليوم، وبعد كل هذا الطوفان، يقول البعض إن صفحة العقوبات طُويت.
نعم، ترامب رفع العقوبات. شكراً له، ولمن سعى وساعد، ولكن هل المشكلة كانت في العقوبات فقط؟
وهل من رفع العقوبات سيبني بيوتًا للنازحين؟
هل سيُعيد الأمهات إلى أبنائهن من المقابر؟
هل سيرمّم الخبز الذي تناثر من يد الجوعى؟
وهل سيعيد لأطفال المخيمات أسماءهم الكاملة بعدما طُمست في الطين؟
الشكر واجب، ولكن الحقيقة أوجب.
الحقيقة أن هذا البلد لا يحتاج فقط إلى رفع عقوبات، بل إلى رفع الظلم، رفع القبضة الأمنية، رفع الحواجز من الحنجرة، وتفكيك الألغام المزروعة في العقول.
سوريا اليوم أمام مفترق وجودي لا سياسي.
إما أن تكون دولة مواطنة، أو لا تكون.
إما أن تتحول من ساحة حرب إلى ساحة حياة، أو تظل مجرّد رقعة على الخريطة يتناوب على قتلها الداخل والخارج.
نعم، نريد خطابًا رسميًا جديدًا، لا يُدار بعقلية أمنية، ولا يُكتب بحبر المخابرات.
نريده خطابًا يعترف بأن سوريا ليست طائفة واحدة، ولا لغة واحدة، ولا ذاكرة واحدة.
نريده خطابًا يقرّ رسميًا بتعدديتنا: بأكرادنا وعربنا، بسرياننا وتركماننا، بمسلمينا ومسيحيينا، بكل من حمل هوية هذه الأرض وسُحق بها.
نريد دستورًا لا يُصاغ في أقبية القصر، بل في ساحات الشعب، دستورًا لا يُقصي، لا يُميّز، لا يحتقر، بل يُنصف ويضمن ويحمي.
نريد سياسة لا تبني الأمجاد على المقابر، بل على المصالحة الوطنية، لا المصالحة الشكلية بل الجذرية، التي تبدأ بالاعتذار، بالعدالة، بالحقيقة.
أما ما نراه من إنجازات دبلوماسية هنا وهناك، فما لم تُترجم إلى تحوّل جوهري في البنية السياسية والقانونية والاجتماعية، فلن تكون إلا “استثمارًا مؤقتًا” لمصلحة السلطة وبعض المنتفعين، لا الدولة، ولا الشعب، ولا المستقبل.
هل ستتحول هذه الاختراقات الدولية إلى مدخل لإعادة بناء سوريا جديدة، دولة قانون ودستور ومؤسسات؟
أم مجرد صفقة تُضاف إلى أرشيف البقاء والاستمرار؟
نبارك لسوريا، نعم، ولكن لسوريا التي ستُبنى، لا التي تُستثمر.
لسوريا التي تُحرَّر، لا التي تُدار من الخارج.
لسوريا الإنسان، لا سوريا الأجهزة.
لسوريا التي تُفتح فيها المدارس بدل السجون، وتُبنى فيها الجامعات بدل المعسكرات، وتُكتب فيها القصائد بدل التقارير الأمنية.
سوريا التي لا يخاف فيها الكردي من لغته، ولا العلوي من اسمه، ولا المسيحي من جاره، ولا السني من مظاهرته.
سوريا التي تسكنها الحرية، لا يُطارد فيها الحلم، ولا يُشنق فيها الرأي.
نعم، نريدها دولة حضارية، مدنية، ديمقراطية، اتحادية إن اقتضى الأمر، دولة لا تحتكرها طائفة ولا يُلغيها جنرال.
دولة تَسَعُ الجميع، وتحاسب الجميع، وتُعيد للوطن ملامحه قبل أن تُعيده للخرائط.
سوريا الجديدة… لا تُصنع بالبيانات، بل بالدم النظيف، بالعقل النظيف، بالإرادة التي لا تخاف من التغيير، ولا تتهرّب من مواجهة الذات.