بمناسبة يوم اللغة الكردية.. عقد الترجمة: عندما يتحوّل الإبداع إلى استغلال صامت

فواز عبدي

 

تواجه اللغة الكردية – بوصفها لغة شعب يعاني من الانقسام السياسي والجغرافي نتيجة الاتفاقات الدولية، يعيش في محيط سياسي وثقافي مضطرب- تحديات وجودية متعدّدة تتراوح بين الإقصاء المؤسسي وغياب الدعم الرسمي، مروراً بندرة المحتوى المعرفي المعاصر، وصولاً إلى تهميش دورها في التعليم والإعلام. في مثل هذه السياقات، تصبح الترجمة إلى الكردية ليست مجرد عمل ثقافي، بل ضرورة ملحّة لحماية اللغة من التآكل، وإغنائها بمفردات ومفاهيم حديثة، وربطها بالعالم الأوسع. فالترجمة لا تحافظ على اللغة فحسب، بل تطوّرها وتُعيد تشكيلها كأداة للتفكير والإبداع.

لكن المفارقة المؤلمة تكمن في أن الترجمة – هذه المهمة النبيلة – كثيراً ما تُمارس في ظروف لا تليق بها، وتُفرض على مترجمين يعملون في الظل، دون حماية أو تقدير. ففي عالم منفتح على التبادل الثقافي وتعدد اللغات، تبرز الترجمة كجسرٍ إنساني ومعرفي لا غنى عنه. لكن هذا الجسر كثيراً ما يُبنى على أكتاف مترجمين لا يُنصفهم أحد.

ويجسد النموذج المعروض لعقد ترجمة بين “ناشر” و”مترجم كردي”– بكل وضوح – صورة من صور الاستغلال الممنهج لعمل فكري دون أدنى اعتراف حقيقي بقيمته.

من أول سطر في العقد، يتضح أن العلاقة بين الطرفين ليست شراكة مهنية متوازنة، بل علاقة سلطة أحادية: الناشر يملك الحقوق، والمترجم يقدّم الجهد، لكن دون مقابل، دون اعتراف، ودون أي ضمان. يقر المترجم في البند الثالث صراحةً بأنه يؤدي الترجمة “دون أي مقابل مالي”، ومع ذلك يُحمَّل مسؤولية التكاليف والمصروفات كافة. وكأن الترجمة ليست عملاً فكرياً ومهنياً، بل “خدمة طوعية” بلا وزن.

ولم يتوقف العقد عند ذلك، بل توالت البنود لتُقيد حرية المترجم وتُفرغه من أي سلطة على عمله: لا يجوز له نشر الترجمة، ولا استخدامها، ولا التعديل عليها، بل ويُمنع من استخدام أدوات العصر كالذكاء الاصطناعي، ويُحرَم من وضع اسمه على الغلاف الخارجي دون إذن خاص. أما الناشر، فله أن يُنهي العقد في أي وقت يشاء دون تعويض، بينما يتحمل المترجم وحده كامل المسؤولية القانونية لأي خلل – حتى لو لم يكن مقصده.

في بيئة كهذه، تُختزل الترجمة إلى “خدمة مجانية خاضعة لسلطة تجارية مطلقة”، لا تعترف بالمترجم إلا بقدر حاجتها إليه. والأسوأ أن هذه الشروط تُفرض على مترجم كردي – باسم “خدمة الثقافة الكردية”! – الأمر الذي يطرح تساؤلات جادة عن التمييز غير المباشر، إن لم نقل الاستغلال الثقافي، المغلف بقالب قانوني.

الترجمة ليست مجرد نقل كلمات، بل خلقٌ موازٍ، يحتاج إلى وعي بالنص، وإحساس بثقافة القارئ، ومهارة في المزج بين اللغتين. تجاهل هذه الحقيقة – كما يفعل هذا العقد – لا يُهين المترجم فقط، بل يسيء إلى النص الأصلي، ويخدع القارئ الذي يظن أنه يقرأ عملاً محترماً، بينما هو ثمرة استغلال صامت.

ما نحتاجه اليوم ليس فقط “عقوداً عادلة”، بل وعياً جديداً بقيمة الترجمة، واحتراماً حقيقياً لدور المترجم بوصفه شريكاً إبداعياً لا آلة صامتة. المترجم ليس ظلاً، بل صوتاً ثانياً للنص – وإذا أُسكت هذا الصوت، خسرنا المعنى.

وأخيراً، نضع هذا العقد على طاولة كل من يلومنا ليل نهار ويصرخ: “يجب أن تترجموا إلى الكردية… إلى الكردية…”، دون أن يسأل نفسه: بأي شروط؟ وبأي كرامة؟ وبأي حق؟

 

ملاحظة: حذفت الأسماء من العقد كي لا تأخذ المسألة مساراً آخر غير المقصود، وتعتبر مسألة شخصية!

 

  • نسخة إلى دور النشر الكردية.
  • نسخة إلى اتحادات الكتاب المتنوعة والمختلفة .
  • نسخة إلى أولياء أمور اللغة الكردية..


شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…