نوروژ بين الدين والقومية، بين الثورة والطمس

د. محمود عباس

 

تشكل عيد نوروژ قبل قرابة ثلاثة آلاف عام، وانبثق عبر التاريخ كمفهوم متعدد الأبعاد، متجذر في الهوية الروحية والثقافية لشعوب المنطقة.

نوروژ ليس مجرد احتفالٍ عابرٍ، بل طقسٌ موغلٌ في الرمزية، يعكس تفاعل الإنسان مع الطبيعة والكون، ويمثل إرثًا مشتركًا لأممٍ متعددة، كل منها احتفت به وفق رؤيتها الفكرية والدينية والقومية. غير أن الشعب الكوردي، دون سواه، كان الأعمق احتواءً له، إذ تقاطع في وجدانه البعدان القومي والديني، ليصبح نوروژ عنده أكثر من مجرد عيدٍ، بل رمزًا لإحدى أعرق الثورات في التاريخ، ثورة على الظلم، ونهوض الشعوب ضد الاستبداد، كما أراد له الكورد أن يكون، وكما أشار المؤرخ الألماني كارل بروكلمان حين وصف نوروز بأنه “ليس مجرد عيدٍ، بل ذاكرة مقاومة”.

لقد حمل نوروژ في جوهره بُعدًا روحانيًا ممتدًا من عقائدٍ سحيقة، تُقدّس النور والنار باعتبارهما جوهر الحياة وسبيل الخلاص، كما في الزرادشتية التي رأت في النار رمزًا للطهارة، والأزداهية القديمة التي احتفت به كعهدٍ بين الإنسان والطبيعة، وكذلك المانوية والمزدكية اللتين جسّدتا الصراع الأزلي بين النور والظلام في فلسفتهما الكونية. لكن مع مجيء الإسلام كدينٍ قادمٍ من بيئةٍ مختلفة، أصبح نوروژ مساحة صراعٍ ثقافي بين ترسبات الإيمان القديم، والهيمنة الدينية الجديدة التي حملتها القوميات العربية والتركية والفارسية، وجعلت منه ساحةَ مقاومةٍ خفية. وهكذا، لم يكن نوروژ عند الكورد مجرد احتفالٍ، بل فعلًا وجوديًا، يُعبّر عن تحدٍّ لإرثٍ طويلٍ من محاولات الطمس والتذويب القومي.

ورغم أن البعد القومي لنوروژ طغى على مضمونه الديني في العصر الحديث، إلا أنه لا يزال يحتفظ بجذوره الروحانية العميقة، التي تتجلى في احتفاليةٍ تحمل إحساسًا لا شعوريًا بالتقديس، لا يختلف كثيرًا عما عبّر عنه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي حين قال: “الأعياد التي تصمد عبر التاريخ، ليست مجرد احتفالات، بل انعكاسٌ لروحٍ أبديةٍ تقاوم النسيان”.

إن نوروژ، بالنسبة للكورد، ليس مجرد طقس احتفالي، بل شهادةٌ على تاريخٍ طويلٍ من النضال ضد الاستبداد، ودليلٌ على صراعٍ لم يُحسم بعد، بين إرادة البقاء القومية، ورغبة القوى المهيمنة في طمس الذاكرة الكوردية، تمامًا كما فعلت الإمبراطوريات الكبرى عبر العصور. لكنه، رغم كل محاولات الطمس، لا يزال ينبعث في كل ربيع، شاهدًا على أن الشعوب التي تتنفس الحرية، لا يمكن أن تموت.

لهذا، وباعتباره بعدًا حضاريًا وتجسيدًا لإرادة وثقافة الشعب الكوردي، يتطلب من الحكومات التي تحتل كوردستان أن تتعامل مع نوروز ليس فقط كعيدٍ كورديٍّ، بل كرابطٍ وطنيٍّ وإنسانيٍّ يوحّد بين مكونات المنطقة القومية والدينية. إن الاعتراف به رسميًا، وتعطيل الدوائر الحكومية في هذا اليوم، ليس مجرد لفتة رمزية، بل خطوة نحو احترام التعددية الثقافية، واعترافٌ بمكونٍ أساسي من شعوب المنطقة، لا يمكن إنكار حقه في الاحتفاء بإرثه التاريخي.

إن نوروژ، بعيدًا عن كونه مجرد مناسبة احتفالية، يحمل في جوهره معاني السلام والتآخي والسعادة، وهو يومٌ تتسامى فيه الروح البشرية فوق الصراعات، ليصبح لحظة اندماجٍ عميقة بين الإنسان والطبيعة، حيث تتجدد الحياة ويُبعث الأمل. في هذه اللحظات، يتجاوز الإنسان حدود الماديات، ويقترب من إلهه بإحساسٍ ضمنيٍّ صادقٍ ونقيّ، حيث تتجلى هيمنة اللاشعور، ويذوب الفاصل بين الفاني والأبدي، بين الأرضي والسماوي.

إن الاعتراف بنوروژ لا يعني فقط احترام حقوق الشعب الكوردي، بل يعني أيضًا التصالح مع تاريخ المنطقة وثقافاتها العريقة، والتأسيس لرؤيةٍ تتجاوز التعصب القومي والديني، نحو مستقبلٍ أكثر انفتاحًا وعدالة. فمن يرفض نوروژ، يرفض روح الشرق، ومن يحتفي به، يحتفي بجوهر الإنسانية، حيث تتلاشى الحواجز المصطنعة، ويولد ربيعٌ جديدٌ للوعي المشترك.

نوروژكم أيها الشعب الكوردي والعالم سعيد، آملاً أن يكون نوروژنا (يومنا الجديد) هذا بداية لمرحلة الحرية تُشيَّد فيها أوطان تتسع للجميع، حيث يُبنى المستقبل بروحٍ حضاريةٍ تنبض بالسلام، ويُؤسَّس لعالم تسوده الديمقراطية والعدل، ليكون الغد أكثر إشراقًا، والإنسان أكثر حريةً وكرامة.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

 mamokurda@gmail.com

19/3/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…