‏قراءة سريعة في مسودة الإعلان الدستوري المؤقت لسوريا

صالح جانكو

مسودة الإعلان الدستوري التي قدمتها لجنة إعداد هذه المسودة إلى الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي وقع بدوره عليها وأصبحت بذلك دستورًا لسوريا لمدة خمس سنوات قادمة، أثارت هذه الوثيقة الكثير من الجدل المحموم بين التأييد والرفض من قبل مجمل الطيف السوري من مكونات الشعب السوري الدينية والمذهبية والطائفية والقومية، من المسيحيين، الأيزيديين، الدروز، الشيعة، العلويين، الكرد، الآشوريين، السريان… إلى آخره، بسبب بنودها التي تتعارض مع قيم الحرية والمساواة والتعددية واحترام حقوق الإنسان.

حيث لا تمثل هذه الوثيقة انتقالًا ديمقراطيًا حقيقيًا، بل تعيد نهج الإقصاء وحقبة الاستبداد بأسوأ وجوهه، وتوقظ ذاكرة السوريين المليئة بأبشع صور القمع والاضطهاد الذي مورس بحقهم في حقبتي الحكم للأسدين الأب والابن، طيلة ما يزيد عن نصف قرن من حكم الاستبداد والفاشية القومية والاستفراد بالسلطة المطلقة.

وقد بدا ذلك جليًا من خلال إلحاق صفة العروبة باسم الدولة السورية في المادة الأولى من هذا الدستور، مما يعكس نهجًا إقصائيًا لا يعترف بالمكونات غير العربية في سوريا، مثل الكرد، السريان، الآشوريين. إن فرض هوية قومية واحدة على دولة متعددة القوميات يتناقض مع مبدأ المواطنة المتساوية، ويؤدي إلى استمرار التهميش والتمييز ضد المكونات غير العربية.

كذلك تنص المادة الثانية في هذه الوثيقة على أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، وأن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. هذه المادة تتعارض مع مبدأ حيادية الدولة تجاه الدين، وتقيِّد الحريات، وتكرس التمييز في التعامل ضد غير المسلمين من الأديان والطوائف الأخرى، مما يقوض فكرة الدولة المدنية الديمقراطية.

كما أن اعتماد الفقه الإسلامي مصدرًا رئيسيًا للتشريع، وما أدراك ما يعنيه الفقه الإسلامي من سعة في التفسيرات والاجتهادات المختلفة والمتعارضة في أغلب الحالات، والتي تراكمت طيلة 1400 عام مرورًا بابن تيمية، الفقيه السني المتشدد، الذي تزيد مؤلفاته في الفقه عن 300 مجلد وكتاب، ومن أوائل مؤلفاته المؤثرة “الصارم المسلول على شاتم الرسول”.

كل ذلك يعني فرض رؤية دينية محددة على مجتمع متنوع دينيًا وطائفيًا ومذهبيًا، وسيلقي بظلاله الرافضة على حرية الأقليات الدينية، وعلى حرية المرأة، بدءًا بجسدها الذي يعتبر كله عورة ووجوب تغطيته بالحجاب، وصولًا إلى تفعيل عقوبة الرجم بحقها. كما أنه سيتم تفعيل الحديث الذي يقول “من بدل دينه فاقتلوه”، الذي يدل صراحة على قتل المرتد.

كما أن هذه الوثيقة تمنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة تجعل منه الحاكم المطلق للدولة، ويتجلى ذلك في المواد بدءًا من المادة 20 وحتى المادة 34، التي تم تكريس جلها لصلاحيات رئيس الجمهورية ومجلس الشعب، الذي يتم تعيين أعضائه بموجب المادة 20 من قبل رئيس الجمهورية. وهذا بحد ذاته لا يوجد له سابقة في دساتير الدول الديمقراطية، مما يجعل من البرلمان، الذي هو أعلى سلطة تشريعية، أداةً بيد السلطة التنفيذية المتمثلة في رئيس الجمهورية، في الوقت الذي يجب أن يكون هذا المجلس منتخبًا من الشعب ليكون ممثلًا حقيقيًا عنه.

كذلك في المادة 33، التي تعطي للرئيس الحق في الاعتراض على القوانين وإعادتها إلى مجلس الشعب، الذي تم تعيينه أصلًا من قبله، وبذلك يتم منحه السلطة التي تتيح له تعطيل العملية التشريعية.

المادة 34 تعطي للرئيس حق منح العفو الخاص، مما يتيح له تجاوز السلطة القضائية. وفي المادة 27، تنص على أن رئيس الدولة هو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة والمسؤول الأول عن إدارة شؤون البلاد ورعاية مصالح الشعب.

مما سبق، يبدو جليًا وواضحًا للعيان أن هذه الصلاحيات تجعل من رئيس الجمهورية هو الحاكم الأوحد ذو الصلاحيات المطلقة، الذي لم يترك مجالًا حيويًا إلا ووضعه تحت سلطته ومرتبطًا بقراراته، مما يجعل كل ذلك يتعارض مع مبدأ فصل السلطات.

أما فيما يتعلق بالحقوق والحريات، فنجد هناك بعض المواد التي تتحدث عن الحريات، إلا أنها كلها مشروطة ومفرغة من مضامينها الحقيقية، ولا تتعدى وعودًا فارغة بلا ضمانات حقيقية.

على سبيل المثال، حرية التعبير والإعلام في المادة 13 مقيدة بالقانون الذي ينظمها، مما يسمح للسلطة بتقييدها كما تشاء على مقاسات معتقداتها.

المادة 14، المتعلقة بتشكيل الأحزاب، هذه المادة معلقة حتى يتم تنظيمها بقانون.

المادة السادسة، التي تنص على أن الجميع متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب، لا يمكن تحقيقها، لأن المسودة تتجاهل التعدد الديني والطائفي والقومي في سوريا. فعدم الاعتراف الصريح بحقوق المكونات العلوية، الدروز، الكرد، وغيرهم، يجعل من هذا الدستور دستورًا يستمر في نهج الإقصاء، الذي كان معتمدًا من قبل النظام البائد في عهد الأسدين الأب والابن، والذي كان سببًا أساسيًا في كل الأزمات السابقة بين سلطة البعث وبين كل مكونات الشعب السوري، الذي لم يعد يحتمل، الأمر الذي دفعه إلى الثورة ضده.

من كل ما سبق، نستنتج أن هذا الإعلان الدستوري المؤقت لا يمثل خطوة نحو الديمقراطية والمساواة والتعددية، بل يعيد إنتاج نظام استبدادي مركزي بصبغة قومية دينية تكرس التمييز الديني والقومي لفئة معينة، وتمنح الرئيس سلطات مطلقة، وتفرغ الحقوق من مضامينها الحقيقية.

لذلك، أصبح من الواجب رفض هذه المسودة جملة وتفصيلًا، من خلال تضامن كل المتضررين منها من مكونات الشعب السوري، والدعوة إلى دستور مدني ديمقراطي يحترم التعددية، ويحترم حقوق الإنسان، لحماية مستقبل سوريا من الوقوع في الظلام.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ملف «ولاتي مه» حول مستقبل الكورد في سوريا، يُعتبر أحد الملفات الهامة التي تُناقش مستقبل الكورد في سوريا في ظل التغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة عامة وسوريا بشكل خاص. يركز هذا الملف على تحليل الأوضاع الراهنة والتحديات التي يواجهها الكورد، بالإضافة إلى استعراض السيناريوهات المحتملة لمستقبلهم في ظل الصراعات الإقليمية والدولية. يسلط الملف الضوء على أهمية الوحدة والتعاون بين مختلف…

أحمد حسن   معلوم أن سوريا بلد متعدد المكونات ( عرقية – مذهبية – دينية – اثنية – ……… ) وهذا يتطلب دستورا ديمقراطيا عصريا وحضاريا يحقق طموحات وأمال كافة المكونات بعد سنوات من الظلم والغبن من الأنظمة الديكتاتورية بحق كافة المكونات لا سيما نظام الأسدين ( الأب والابن ) لكن بعد انهيار نظام الطاغية بشار الأسد في 8/12/2024…

بيان إلى الرأي العام   تفاءلنا خيرا نحن في قوى المجتمع المدني الكوردستاني كما معظم أبناء شعبنا بسقوط النظام الديكتاتوري، الذي جثم على صدر السوريين قرابة ستة عقود والذي اتسم بتفشي الفساد وبناء الدولة الأمنية التي زرعت السجون والمعتقلات في طول البلاد وعرضها، ورحبنا بالسلطة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع على أمل اتخاذ إجراءات بحل هيئة تحرير الشام والانتقال من…

مقدمة… الإعلان الدستوري الصادر مؤخرًا عن سلطة الأمر الواقع في سوريا يفتقر إلى الشرعية الدستورية والقانونية، حيث لم يصدر عن مؤسسات دستورية منتخبة ومعترف بها، بل جاء نتيجة تعيين فصائلي فرض سلطة غير شرعية على الدولة. إن الرئيس الذي أصدر هذا الإعلان لم يُنتخب من قبل الشعب، بل تم فرضه من قبل مجموعة من الفصائل، كما أنه مطلوب دوليًا بتهم…