كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة السابعة عشرة (فائق اليوسف*)

انتفاضة قامشلو 2004م وغرفة عمليات الأخبار.. (حقائق تُذكر للمرة الأولى)

1 ــ يوم الجمعة (12 آذار عام 2004م) كنتُ في مسجد الهلالية لأداء الصلاة، وبعد انتهاء خطبة الجمعة التي ألقاها فضيلة الشيخ الجليل “الملا عبدالله ملا رشيد رحمه الله”، تقدّمنا (أنا وصديقي عبدالرحيم مقصود)؛ لإيصال الشيخ إلى منزله ثمّ استودعناه.. وعُدتُ إلى البيت، حينها كان أخي كرم وأحد أعمامي  وبعض أبناء الحيّ الغربي قد ذهبوا إلى الملعب البلديّ في قامشلو؛ لحضور مباراة نادي الجهاد وضيفه نادي الفتوة القادم من دير الزور، لكنّني تفاجأتُ بوجود بعض النساء والرجال والشباب من القاطنين في حيّنا في البيت، وكانوا في حالة من الذعر والقلق والارتباك؛ لِسماعهم أنباءً (من الإذاعة السّوريّة) عن مقتل طفلين في الملعب البلديّ نتيجةً لأحداث شغبٍ وقعتْ داخل الملعب..؟!.

2 ــ هرع جميع مَنْ في بيتنا (ومنهم والدتي إلى الشارع)؛ لاستقصاء الأنباء من العائدين (لتوِّهم) من الملعب.. ليُؤكّدوا أنّ الملعب يشهد عراكاً دامياً بين جماهير الناديين.. وهناك قتلى وجرحى في الملعب وفي الشوارع المحيطة بالملعب.. على الفور أسرعتُ لمنزل جاري، وأخذتُ دراجته الهوائية وتوجّهتُ نحو الملعب؛ للبحث عن أخي وعمّي وأتقصّى عمَّا جرى ويجري..؟ في الطريق رأيتُ أفواجاً من الناس تتجه صوب الملعب وهم في حالٍ كحالتي.. وآخرين كانوا يعودون إلى بيوتهم.. وعند وصولي إلى داخل الملعب، وجدتُ شرطة الأمن في أرضية ساحة اللعب (المسوَّر بالسياج الحديديّ) قد أحاطوا بجمهور الفتوة.. دخلتُ بدراجتي إلى منتصف ساحة الملعب.. حينها التفتتُ نحو جمهور الجهاد وهم في حالةٍ من الهلع يهربون عشوائياً إلى كافة الاتجاهات (كلّ واحدٍ منهم يأمل النجاة بروحه)، ومنهم جرحى وثيابهم ملطَّخة بالدماء.. كان من بينهم من كانت جراحهُم بليغةً.. وبالمقابل رأيتُ جمهور الفتوة لمَّا يزل أرعناً يقذف بالأحجار نحو جماهير الجهاد الهاربة.. كلّ ذلك أمام مرأىً من شرطة حفظ النظام، وكأنّهم سعداء لرؤية تلك المشاهد الدّامية..؟!.

3 ــ وللتنويه: فيما بعد أحداث الملعب.. أخبرني صديقي محمد سعد (وهو من دير الزور) بأنّ جماهير نادي الفتوة كانوا قد أعدُّوا العُدَّة مُسبقاً (وهم في دير الزور)؛ لتنفيذ مخططهم الخبيث، ومن أجل ذلك جلبوا معهم الحجارة والسكاكين إلى قامشلو لمواجهة جماهير الجهاد.. وتجاه همجية جماهير الفتوة لم يبقَ أمام جماهير الجهاد (الشباب  الغاضب) سوى الرَّد بالمثل حفاظاً على أرواحهم.. فتناولوا حجارة المهاجمين من الأرض وصاروا يرمونها صوب جمهور الفتوة وعناصر شرطة حفظ النظام.. وأثناء تلك المعمعة بدأ عناصر الشرطة ومعهم عناصرُ من الفروع الأمنية، وبإيعازٍ مباشرٍ من محافظ الحسكة (سليم كبول وهو أهالي السويداء)، بإطلاق الرصاص الحي على جماهير الجهاد، مِمَّا نتج أدّى إلى سقوط عددٍ من الشباب منهم مَن ارتقى شهيداً والغالبية جرحى.. وأنا (بفضل الله) تمكّنت وبصعوبةٍ من الوصول إلى الجانب المواجه للباب الرئيسيّ من الملعب، وخرجتُ مسرعاً مبتعداً عن الملعب.. وعند زاوية أحد الشوارع القريبة من الملعب التقيتُ بأخي وعمّي، فأعلمتهما بقلق الوالدة عليهما، ولكنّهُما  فضَّلا أنْ نبقى في المكان.. وأنْ نشارك جموع الناس في ترديد الشعارات ضدّ مُطلقي الرصاص (شرطة حفظ النظام وعناصر الفروع الأمنية)، وحين ازداد عدد قوات الشرطة والعناصر الأمنية وتزايدت كثافة إطلاق الرصاص؛ اضطررنا لمغادرة المكان..

4 ــ عمليات التصوير الأولى: وإثر مغادرتي المكان (قرب الملعب) توجّهت إلى صديقي بازو إسماعيل (شقيق الدكتور فاروق إسماعيل)؛ لأخذ الكاميرا خاصّته والقيام بالتصوير، وعند وصولي إليه أخبرني أنّ الأصدقاء أخذوها.. لاحقاً علِمتُ بأنّ الصديق سعود حسين كان قد حمل الكاميرا خاصّته (بمشاركة بعض الأصدقاء) ومِنْ فوق أحد الأبنية المحيطة بالملعب وقاموا بتصوير لحظات هروب الجماهير من الملعب.. ووقوفها على أطراف الملعب على شكل تظاهراتٍ متعدِّدةٍ.. وسقوط العديد ما بين شهيدٍ وجريحٍ.. ولحظات خروج الشرطة والعناصر الأمنية من الملعب وهم يُطلقون النار على المارّة.. (وكانت تلك الكاميرا هي الأولى التي خُصّصت لخدمة الانتفاضة) وبالانتهاء من التصوير، قام سعود حسين وبالتنسيق مع نصرالدين أحمه (وبعض الأصدقاء) بتحويل المقاطع المسجلة من الكاسيت العادي إلى سيدي.. وإرساله مع حسن زكي (حسن خاني صوري) إلى بيتنا (منزل إبراهيم اليوسف)، واستمرّ الصديقان (سعود حسين ونصرالدين أحمه) يتردَّدان إلى منزلنا؛ لتزويدنا بالمعلومات والمقاطع، وأحياناً بمفرده (لانشغال نصرالدين بنشاطه الفني والميداني)، (وللتنويه والأمانة): كثيرون هُم من صوّروا المشاهد، لكنّ المشاهد والمقاطع التي وصلت إلى وسائل الإعلام (عبرنا) كانت مشاهد تتراوح مدَّتها بين نصف الدقيقة والدقيقة إلى بضعة دقائق.. أمّا بخصوص تصوير لقطة إطلاق محافظ الحسكة (سليم كبول) أوّل رصاصةٍ نحو الجمهور، فقد أكَّد حقيقتها عضو أحد الأحزاب السياسية الكردية، وذلك خلال زيارته لمنزلنا، ووعد بأنّه سيُحضر لقطة المحافظ وكذلك حديثه، لكنّ السياسي (المشار إليه أعلاه) لم يفِ بوعده (من دون معرفة الأسباب)، كما أنّه كان هناك من قاموا بالتصوير الفعليّ، ولكنّهم أخفوا ما عندهم (وقيل إنّ أحدهُم كسر الكاميرا خاصته؛ خوفاً..!!).

5 ــ أول مداخلةٍ إعلاميةٍ أجريتُها كانت مع فضائية الانتفاضة (Roj TV)، حيث ذكرتُ عبرها أنّ محافظ الحسكة ( ابن السويداء ) هو مَنْ أمر بإطلاق الرصاصة الأولى على مشجعي نادي الجهاد (العزّل)، ونشرتُ أيضاً عبر موقع كسكه سور وموقع عامودا. كوم (وكان يُديرهُ سيروان حاج بركو)، وبينما كُنا في بيتنا وإذْ بفضائية Roj تتواصل مع والدي وتُعلِمهُ بأنّ أحد معتمديها (في قامشلو) لا يُجيب على مكالماتهم، بل وقام بإغلاق هاتفهُ.. بعدها بدأتُ التواصل مع أغلب إعلاميي فضائية Roj (وتحديداً مع نواف خليل وطارق حمو)، وذات مرّةٍ (قُبيلَ إرسال القرص إليهم) قاموا بإعطائي مفتاح الموقع لتحميل المقاطع المصورة لدينا على موقعهم، لكنّنا لم نتمكّن بسبب بطء خطوط الإنترنت الـ Dial up وعدم توافر خطوط الـ DSL السريعة آنذاك..

6 ــ نشر أول مقاطع الفيديو ومخاطر الإرسال: كان علينا إيصال القرص الذي يحوي مقاطع الفيديو (أحداث الملعب ومحيطه) إلى تركيا؛ ليصار إلى إرسالها إلى فضائية Roj وكردستان العراق وأوروبا، فقام أخويَّ كرم وآراس وبالتعاون مع صديقنا دلكش شيخموس بوضع القرص في علبةٍ (مطبوع عليها صورة واسم فيلم: “بافي طيار” الكوميديّ الكرديّ، وتمّ تمرير العلبة عبر الحدود عن طريق امرأةٍ (من معارف دلكش) التقيناها عند النقطة الحدودية؛ لتوصيل الأمانة إلى الطرف الآخر من الجانب التركي، وفعلاً وصل القرص ليد الدكتور محمد محمود (المقيم في نصيبين)، الذي بدوره قام بإرسال نسخةٍ من القرص إلى فضائية Roj ونسخة إلى سيروان حاج بركو.. (وفي اليوم التالي عرضت Roj الفيديو كاملاً) ونسخة إلى فضائيتي Kurdistan TV وكردسات.. ومن ثُمَّ تشكّلت مواقع عديدة منها: KNN)- Kurd roj- Rojava) والتي أدَّت أدوراً رياديةً من خلال تشكيل غرفة أخبارٍ في الخارج، والتواصل مع الداخل عبر مراسليها، إلى جانب اعتمادها على أعضاء فريقنا الإعلاميّ الخاصّ ومنهم عبدالرزاق سليم (الذي كان يمدّ موقع كرد روج وجهاتٍ أخرى بالأخبار)، وأذكرُ حينها أنّ فرهاد أحمه وقادو شيرين وصحفيين آخرين كانوا يشرفون على تلك المواقع.. وللأمانة: لاحقاً قمنا (أنا ودلكش شيخموس) بمحاولة إرسال قرصٍ آخر (يحوي مقاطع جديدة)، لكنّنا فوجئنا بالشخص السابق (الذي استلم القرص من المرأة في الجانب التركي وسلّمه للدكتور محمد محمود) يدخل الجانب السّوريّ (من الحدود)، وتوجّه إلينا وهو يتحدّث بنبرةٍ عالية، ويُعبِّر عن رفضه استلام القرص.. وهنا تداركنا خطورة الموقف، وانسحبنا على الفور.

7 ــ العمل الميداني (أعضاء الفريق الإعلامي في قامشلو): كان بيتنا (منزل إبراهيم اليوسف) ملتقىً دائماً للتواصل والتنسيق فيما بيننا (أقصد الناشطين حينها )، وكنّا قد قسمنا العمل (فيما بيننا) إلى قسمين: الجانب العملي الميداني (كوادر للعمل خارج البيت)، والجانب الإعلاميّ؛ لإيصال صوت الانتفاضة للعالم الخارجيّ (كوادر العمل للمراسلات/ وهذه كانت مهمّتي وإخوتي)، وكان يزورنا على الدوام الصديقان نصرالدين أحمه ومنذر أوسكان ويمدّاننا بمقاطع الفيديو.. فكُنتُ أنا أقوم بصياغة الأخبار بناءً على مجريات الأحداث.. وآخذ الصور من مقاطع الفيديو وأنشرها، وأرسل نسخاً منها إلى الأخ سيروان حاج بركو.. ومن الحوادث العالقة في ذهني: ذات مرَّة كان الصديقان نصرالدين أحمه ومنذر أوسكان موجودين في حي قدور بك، فقاما بعمل نسختين لمقاطع الفيديو (على CD)، وكلّ منهما حمل نسخةً، وكانا يسيران في شارعٍ واحدٍ، لكنّ كُلّ واحدٍ منهما على جانبٍ؛ لضمان إيصال نسخةٍ واحدةٍ إليَّ في الحيّ الغربيّ (خوفاً من اعتقالهما معاً).

8 ــ حضور وفد لحقوقيين وناشطين سوريين إلى بيتنا في قامشلو: حضر إلى مدينة قامشلو وفدٌ كبيرٌ، ضمّ ناشطين وحقوقيين سوريين، كان من بينهم هيثم المالح وياسين الحاج صالح وآخرون، عبر تنسيقٍ مُسبقٍ مع صديق الأسرة الشهيد مشعل التمو، وذلك لرصد الأحداث عن كثبٍ، والاطلاع على مجريات الوقائع، فقصدوا بيتنا (منزل إبراهيم اليوسف)، والتقوا مع العديد من الشخصيات الثقافية والحقوقية والسياسية (الكردية)، وخلال الزيارة عُقِدت (في بيتنا) ندوةٌ جماهيريةٌ بحضور الوفد.. وخلال الندوة قمنا بتوزيع نسخٍ من مقاطع الفيديو على أعضاء الوفد، (حيث كان الشهيد مشعل قد أعدَّها مُسبقاً)، تلك المقاطع التي تُبيّن الكثير من الانتهاكات التي ارتكبتها قوات حفظ النظام والعناصر الأمنية داخل الملعب البلديّ وخارجه في الشوارع المحيطة بالملعب، ثمّ اقتنينا نسخاً من المقاطع من محلّ السيد دلبرين محمد، وقمنا بتسجيلها بمساعدته..

===========

* إعلامي وكاتب

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ملف «ولاتي مه» حول مستقبل الكورد في سوريا، يُعتبر أحد الملفات الهامة التي تُناقش مستقبل الكورد في سوريا في ظل التغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة عامة وسوريا بشكل خاص. يركز هذا الملف على تحليل الأوضاع الراهنة والتحديات التي يواجهها الكورد، بالإضافة إلى استعراض السيناريوهات المحتملة لمستقبلهم في ظل الصراعات الإقليمية والدولية. يسلط الملف الضوء على أهمية الوحدة والتعاون بين مختلف…

أحمد حسن   معلوم أن سوريا بلد متعدد المكونات ( عرقية – مذهبية – دينية – اثنية – ……… ) وهذا يتطلب دستورا ديمقراطيا عصريا وحضاريا يحقق طموحات وأمال كافة المكونات بعد سنوات من الظلم والغبن من الأنظمة الديكتاتورية بحق كافة المكونات لا سيما نظام الأسدين ( الأب والابن ) لكن بعد انهيار نظام الطاغية بشار الأسد في 8/12/2024…

بيان إلى الرأي العام   تفاءلنا خيرا نحن في قوى المجتمع المدني الكوردستاني كما معظم أبناء شعبنا بسقوط النظام الديكتاتوري، الذي جثم على صدر السوريين قرابة ستة عقود والذي اتسم بتفشي الفساد وبناء الدولة الأمنية التي زرعت السجون والمعتقلات في طول البلاد وعرضها، ورحبنا بالسلطة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع على أمل اتخاذ إجراءات بحل هيئة تحرير الشام والانتقال من…

مقدمة… الإعلان الدستوري الصادر مؤخرًا عن سلطة الأمر الواقع في سوريا يفتقر إلى الشرعية الدستورية والقانونية، حيث لم يصدر عن مؤسسات دستورية منتخبة ومعترف بها، بل جاء نتيجة تعيين فصائلي فرض سلطة غير شرعية على الدولة. إن الرئيس الذي أصدر هذا الإعلان لم يُنتخب من قبل الشعب، بل تم فرضه من قبل مجموعة من الفصائل، كما أنه مطلوب دوليًا بتهم…