تمر سوريا بمرحلة تاريخية فارقة تتطلب مراجعة شاملة لطبيعة النظام السياسي السابق ، وآليات جديدة لإعادة بناء الدولة السورية على أسس ديمقراطية ، بحيث تعكس تطلعات السوريين وتضحياتهم من أجل الحرية والكرامة . ففي الوقت الذي كان فيه الشعب السوري يتطلع إلى عقد مؤتمر وطني شامل يُرسي أسس سوريا المستقبل على مبادئ الديمقراطية والتعددية والعدالة والمساواة . جاء مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في قصر الشعب بدمشق يومي 24 و25 شباط 2025 ليُخيب هذه الآمال، ويُثير العديد من التساؤلات حول جديته وشفافيته.
ورغم مشاركة نحو 600 شخصية في المؤتمر، إلا أن آلية اختيار المشاركين افتقرت إلى الشفافية، حيث تم استبعاد العديد من القوى والكيانات السياسية ، خاصة من الحركة السياسية الكردية ، مما أدى إلى غياب تمثيل حقيقي لمكونات أساسية في المجتمع السوري. هذا النهج الانتقائي يُعيد إنتاج سياسات الإقصاء التي عانى منها السوريون لعقود.
وفي هذا السياق، كان من المفترض أن يُشكل المؤتمر الوطني السوري خطوة نوعية نحو بلورة مشروع سياسي جديد، يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس الشراكة والمواطنة المتساوية، بحيث يؤسس لنظام تعددي يضمن حقوق جميع مكونات الشعب السوري. إلا أن ما حدث فعلياً هو انحراف جوهري عن هذا الهدف، حيث تحول المؤتمر إلى مجرد منتدى للحوار الوطني، لم يعكس الإرادة الشعبية ، بل جاء تنفيذاً لأجندات ضيقة، قائمة على انتقائية اجتماعية ومناطقية ، تُعيد إنتاج السياسات الإقصائية التي طالما عرقلت فرص بناء سوريا كدولة وطنية حديثة .
ان المشكلة الجوهرية لدى هؤلاء تكمن ، في غياب رؤية فكرية واضحة حول طبيعة الدولة السورية المستقبلية. فمنذ بداية المؤتمر، لمسنا إصراراً على تجاوز الأسئلة الكبرى التي يفترض أن تكون أساس أي حوار وطني جاد : ما هو شكل الدولة السورية المستقبلية؟ هل ستكون دولة مركزية أم لامركزية؟
ما هو الأساس الفلسفي والسياسي للمواطنة؟ هل المواطنة مفهوم مجرد، أم أنها يجب أن تتجسد في اعتراف قانوني وفعلي بالتعدد القومي والديني؟
كيف يمكن تحقيق الديمقراطية؟ هل هي مجرد إجراءات انتخابية، أم منظومة شاملة تشمل فصل السلطات، وحماية الحقوق، وضمان التعددية السياسية؟
غياب هذه الأسئلة وغيرها عن سياق المؤتمر، أو تجاهلها المتعمد، يكشف عن نهج فكري اختزالي يرى الحل السياسي مجرد ترتيبات إجرائية، وليس عملية تحول بنيوي تشمل إعادة تعريف العقد الاجتماعي في سوريا. فالدولة السورية كما نعرفها، تأسست على مبدأ المركزية القومية والإدارية، وعانت عبر تاريخها من أزمات بنيوية نتيجة إقصاء المكونات غير العربية ، وتهميش التعددية السياسية ، واحتكار السلطة ، وكان المأمول من هذا المؤتمر أن يكون فرصة لمعالجة هذه الأسئلة ، لكنه بدلاً من ذلك أعاد إنتاج نفس الذهنية المركزية، مستخدماً خطاباً فضفاضاً دون أن يقدم أي إجابات حقيقية.
لقد ، افتقد المؤتمر، منذ لحظة التحضير، الحد الأدنى من الشفافية والشمولية. فقد تم تشكيل اللجنة التحضيرية من لون واحد، وعُقدت اللقاءات التمهيدية بعيداً عن أعين القوى والكيانات السياسية ، في محاولة واضحة لفرض رؤية مسبقة، بدلاً من خلق مساحة حوار وطني حقيقي ، وتم توجيه الدعوات وفق معايير انتقائية غير معلنة ، مما أدى إلى استبعاد الحركة السياسية الكردية، والعديد من القوى والشخصيات الوطنية التي لعبت دوراً محورياً في الثورة السورية.
هذا النهج الإقصائي لا يعكس فقط مشكلة وطنية ، بل يكشف عن إشكالية فكرية أعمق تتعلق بعدم الاعتراف بالتعددية كقيمة أساسية في بناء الدولة. فالتعددية ليست مجرد تمثيل صوري لمكونات مختلفة، بل هي إقرار بحقيقة التنوع كعنصر بنيوي في تشكيل الهوية الوطنية ، وعندما يتم تجاهل هذا المبدأ، ويتم التعامل مع المكونات غير العربية وكأنها عناصر هامشية، فإننا أمام إعادة إنتاج للعقلية الإقصائية التي لطالما كانت سبباً في هشاشة الدولة السورية.
لقد عكس البيان الختامي الصادر عن المؤتمر بوضوح شديد غياب رؤية سياسية واضحة، حيث خلا من أي التزام بمفهوم الديمقراطية كمرجعية أساسية لنظام الحكم، واستبدل مبدأ فصل السلطات بمصطلح ضبابي هو “توازن السلطات”، في إشارة إلى رغبة ضمنية في الحفاظ على المركزية بصيغ جديدة. في حين استخدم البيان مفهوم المواطنة بطريقة إشكالية، حيث تم تقديمها بوصفها مفهوماً مجرّداً، دون ربطها بواقع التنوع القومي والديني في سوريا، مما يعكس رغبة القائمين على المؤتمر في استمرار التهميش الهيكلي للمكونات غير العربية.
إن تجاهل حقوق الشعب الكردي، وعدم الاعتراف بالهوية التعددية لسوريا، والتهرب من مناقشة شكل الدولة ونظام الحكم، إضافة إلى مسألة اللامركزية التي تُعتبر مطلباً أساسياً لضمان توزيع عادل للسلطة والثروة ، وعدم وجود أي خطط واضحة لتحقيق العدالة الانتقالية، ومحاسبة مرتكبي الجرائم والانتهاكات بحق الشعب السوري. مما يُهدد بإفلات الجناة من العقاب، ويُعيق عملية المصالحة الوطنية ، ورغم الإشارة إلى ضرورة تحفيز التعافي الاقتصادي، إلا أن المؤتمر لم يُقدم خططاً عملية لمواجهة التحديات الاقتصادية الهائلة التي تواجهها البلاد، ولم يتطرق إلى قضايا البطالة والفقر وإعادة الإعمار بشكل جدي. مما يدل على وجود أزمة فكرية في خطاب القوى التي نظمت المؤتمر، وهي أزمة تتمثل في العجز عن الاعتراف بأن حل القضية السورية لا يمكن أن يتم إلا من خلال تفكيك البنية الإقصائية وإعادة تأسيس الدولة على أسس الشراكة الحقيقية.
انطلاقاً مما سبق ، فإن تيار مستقبل كردستان سوريا يؤكد على المبادئ التالية:
- رفض أي مؤتمر للحوار الوطني لا يقوم على أسس الشمولية والتمثيل العادل، لأن أي عملية سياسية تستثني مكونات رئيسية من الشعب السوري لا يمكن أن تؤسس لحل مستدام.
- التأكيد على أن الحقوق القومية للشعب الكردي، وحقوق باقي المكونات، ليست قضية ثانوية أو قابلة للتفاوض، بل هي جزء أساسي من مستقبل سوريا، وأي تجاهل لها يعني استمرار عقلية الإقصاء التي كانت سبباً رئيسياً في تفكك الدولة السورية.
- الديمقراطية ليست مجرد عملية إجرائية، بل هي منظومة حكم متكاملة تقوم على ضمان الحقوق السياسية والقومية، والفصل بين السلطات، وتعزيز اللامركزية. لذلك، فإن أي محاولة لإعادة إنتاج النظام المركزي، سواءً تحت مسمى “التوازن” أو غيره، هي محاولة لإجهاض التحول الديمقراطي في سوريا.
- سوريا المستقبل يجب أن تكون دولة تعددية لامركزية، حيادية تجاه الأديان ، قائمة على مفهوم المواطنة الحقيقية، التي تعترف بالحقوق القومية والثقافية لجميع مكوناتها، وتضمن مشاركتهم الفعلية في صياغة القرار السياسي، وليس مجرد تمثيلهم الشكلي.
- التأكيد على ضرورة عقد مؤتمر وطني حقيقي، يُشارك فيه جميع مكونات الشعب السوري دون إقصاء، بحيث يستند إلى مبادئ الشفافية والعدالة والمساواة والاعتراف بالتعددية القومية والدينية.
إن سوريا التي قدم شعبها تضحيات جسيمة لا يمكن أن تُبنى على أساس نفس الذهنية المركزية التي كانت سبباً في معاناته ، وأن التحول الديمقراطي الحقيقي لا يكون عبر إعادة إنتاج هياكل السلطة السابقة بواجهات جديدة ، بل من خلال تفكيك أسس الاستبداد، وبناء عقد اجتماعي جديد يقوم على الاعتراف بالتنوع كقيمة تأسيسية، وليس كمعطى هامشي يمكن الالتفاف عليه.
وعليه، فإننا نرفض أي مشروع سياسي لا ينطلق من هذه المبادئ، ونؤكد أن أي محاولة لفرض رؤية أحادية على مستقبل سوريا لن تؤدي إلا إلى إطالة أمد الأزمة، وتعميق الانقسامات الداخلية، وإجهاض أي فرصة لحل حقيقي ومستدام
قامشلو ٢٧-٢-٢٠٢٥
تيار مستقبل كردستان سوريا.
الهيئة التنفيذية .