إعادة تشكيل الشرق الأوسط هل هو مخطط خارجي أم نتيجة بنية داخلية هشة؟ 2/2

د. محمود عباس
لا يمكن النظر إلى التحشيد العربي والإسلامي في دعم القضية الفلسطينية خارج هذا السياق، فكلما ازداد الخطاب العدائي ضد إسرائيل، ازداد بالمقابل دعم الولايات المتحدة وأوروبا لإسرائيل، وتحول الصراع من فلسطيني-إسرائيلي إلى صراع بين الغرب من جهة والدول العربية والإسلامية من جهة أخرى. فبدل أن يكون هناك صراع سياسي يتمحور حول إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، بات المشهد ساحة حرب باردة بين قوى عالمية، حيث تدافع الولايات المتحدة وأوروبا عن إسرائيل، بينما تتخذ بعض الدول العربية والإسلامية الصراع ذريعةً لتعزيز نفوذها، مثلما تفعل إيران عبر وكلائها في المنطقة، أو كما تفعل تركيا التي تستغل الخطاب الإسلامي والقضية الفلسطينية لأهداف توسعية خاصة بها.
  هذه المعادلة لم تخدم الشعب الفلسطيني بقدر ما جعلته أداة في لعبة كبرى، حيث باتت قضيته تُستخدم كوسيلة لتبرير صراعات دولية لا علاقة له بها. فمنذ ظهور دولة إسرائيل عام 1948، والهجرة الفلسطينية الكارثية، لم تقدم الأنظمة العربية حلًا حقيقيًا للقضية الفلسطينية، بل استثمرت فيها لخدمة بقائها، وهو ما يجعل فكرة التهجير التي يطرحها ترامب تبدو وكأنها امتداد لسياسات التضليل العربية قبل أن تكون مشروعًا غربيًا.
في هذا السياق، تدرك تركيا وإيران أن التغيير في المنطقة لن يتوقف عند حدود فلسطين أو غزة، بل سيصل إلى داخل أنظمتهما السياسية والعرقية، لذلك تحاولان المقاومة عبر إثارة الضجيج الإعلامي وتخويف الداخل من سيناريوهات التفكك.
 تركيا، التي تواجه أزمة هوية حادة مع الكورد، لا تقتصر مخاوفها على استقلال إقليم كوردستان العراق أو الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، بل تخشى امتداد عدوى المطالب القومية إلى داخل حدودها، حيث يشكل الكورد أكثر من 30% من سكانها. تدرك أن أي خطوة نحو منح الحقوق القومية للشعوب الأخرى في الشرق الأوسط قد تشكل شرارة لانفجار داخلي يهدد بنيتها السياسية القائمة على الإنكار والقمع، مما يجعلها تتبنى سياسات عدوانية لا تهدف فقط إلى قمع كوردها، بل إلى تقويض أي تجربة كردية ناجحة في المنطقة.
أما إيران، فترى في تصاعد النزعات القومية في الأحواز وبلوشستان وكوردستان تهديدًا مباشرًا لكيانها السياسي القائم على فكرة “ولاية الفقيه”، والذي لا يحتمل أي شكل من أشكال التعددية. لذلك، فإن الصراع في الشرق الأوسط ليس فقط بين إسرائيل والفلسطينيين، ولا بين الغرب والعالم الإسلامي، بل هو في جوهره صراع بين أنظمة تخشى التغيير لأنها تعلم أن أي تغيير حقيقي سيعني نهايتها الحتمية.
التاريخ يثبت أن الشرق الأوسط لا يمكن أن يظل في حالته الحالية إلى الأبد، فكما انهارت الدولة العثمانية بسبب تنوعها العرقي والديني وفشلها في تحقيق توازن داخلي، تواجه دول المنطقة اليوم المصير ذاته، لأنها لم تستطع بناء دول وطنية تستوعب مكوناتها المختلفة. وبالتالي، فإن الحديث عن إعادة تشكيل المنطقة ليس مجرد مخطط غربي، بل نتيجة حتمية لانهيار داخلي صنعته هذه الأنظمة بنفسها. ومثلما كانت سايكس-بيكو نتيجة لسقوط الإمبراطورية العثمانية، فإن أي إعادة ترسيم جديدة ستكون نتيجة مباشرة لسقوط هذه الأنظمة التي عجزت عن بناء دول حقيقية.
ما يجري اليوم ليس مؤامرة بقدر ما هو إعادة إنتاج لفشل الأنظمة، والدول الكبرى لا تحتاج إلى خلق الفوضى، لأن الفوضى قائمة أصلًا، وكل ما تفعله هو توجيه الأحداث نحو مصالحها. فلو لم تكن هناك أنظمة قمعية، وفساد متجذر، وانقسامات قومية وطائفية، لما تمكنت أي قوة خارجية من استغلال المنطقة بهذا الشكل.
 لذلك، فإن الشرق الأوسط يقف اليوم على مفترق طرق حاسم، بين أن يواصل انحداره نحو الفوضى، وبين أن يبدأ رحلة إصلاح حقيقية تعيد بناء مجتمعاته على أسس العدالة والنظم الفيدرالية اللا مركزية. ولكن طالما بقيت هذه الأنظمة تتعامل مع حقوق القوميات كالكورد والأمازيغ وغيرهم بالحديد والنار، وطالما استمرت في تغذية الكراهية والصراعات الداخلية، فإن المنطقة ستظل ساحة مفتوحة لتدخلات القوى الخارجية، ولن يكون هناك حدّ لمسيرة التغيير، التي قد لا تتوقف عند غزة والضفة، بل قد تمتد لتشمل أنظمة لم تتوقع يومًا أنها ستكون جزءًا من خريطة جديدة للشرق الأوسط كتركيا وإيران.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.comv
12/2/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…