في مجاهل العقل وانحناءات التاريخ

 بوتان زيباري
ما العقل إلا صفحةٌ بيضاء، يسارع الأسبق إليها ليخطّ عليها أول الحروف، فإن كان المداد حريةً، صار العقل نورًا، وإن كان حبرًا من تقليدٍ وتعصب، غدا العقل قبرًا لصاحبه وهو حي. هكذا تسير أممٌ تسائل ذاتها، فتنهض من كبوتها، وأخرى تتعثر في ظلال الماضي، فتسجن ذاتها في مرايا الأوهام.
والمعضلة ليست في الأرض التي تطؤها الأقدام، بل في السماء التي تُظل العقول. فثمة شعوبٌ تغزل حاضرها بخيوطٍ من فكر، وثمة أممٌ تُعيد رتق ثيابٍ مهترئةٍ، تحسب أن الماضي درعها، وهو في الحقيقة قيدها. فكيف لأمةٍ أن تعبر نهر الحداثة، وهي تحمل على ظهرها صخور القرون الغابرة؟ كيف يُبصر النور من لا يزال يسبّ الشمس لأنها أشرقت من غير نافذته؟
إن الثقافات التي تحتمي بأسوار الماضي، تظن أن الفكرة دخيلة، وأن السؤال طعنة، وأن النقد ضربٌ من الكفر. لكنها لا تدرك أن التاريخ لا يقف احترامًا لشيء، وأن الأنهار لا تسير إلى الوراء إكرامًا لأجدادها. الحضارة ليست ميراثًا يُتلى على المقابر، بل فكرٌ يُبعث في العقول، ووعيٌ يتجدد كالشمس، لا يعرف ثباتًا ولا يخشى تبدلًا.
والغريب أن من يلعنون الحداثة صباحًا، هم ذاتهم الذين يتكئون على عكاز اختراعاتها مساءً، ومن يزعمون أن الفكر الدخيل خطر، هم أول من يقتاتون من موائد من حرّروا العقل من قيوده. فكيف لأمةٍ أن تلعن السفينة وهي تغرق في لجج البحر؟ كيف يُحارب النور من يتلمس طريقه في الظلام؟
وفي هذا المسير، يظل التعليم حجر الزاوية في بناء الإنسان أو هدمه. فإن كان التعليم مرآةً تعكس الواقع دون سؤال، صار تكرارًا بليدًا، وإن كان شعلةً توقظ الوعي، صار نافذةً نحو غدٍ مختلف. لكن أي تعليم هذا الذي يُبجل الطاعة ويخشى الفكر؟ أي معرفةٍ تلك التي تُلقَّن كالطلاسم، ولا تفسح للعقل أن يسأل: لماذا؟
إن النهوض ليس محض مصانع تشيد، أو أبراجٍ تعانق السماء، بل هو ميلادٌ جديدٌ للعقل، وانعتاقٌ من كهوف التلقين والتقليد. فالأمم التي تبني عمرانها ولا تبني فكرها، كمن يشيّد قصورًا على رمالٍ متحركة. لا بقاء لمن لا يملك القدرة على التجدد، ولا مستقبل لمن لا يتعلم من ماضيه إلا ما يعيده إلى الوراء.
ولذلك، كان لا بد من ريحٍ عاصفةٍ، تقتلع جذور الجمود، وتسائل ما ظُنّ أنه مسلّمٌ به، وتعيد تشكيل العقل لا كوعاءٍ ممتلئٍ، بل كأفقٍ مفتوح. فلا نهضة لمن لم يواجه ذاته أولًا، ولا حرية لمن لا يتحرر من قيوده قبل أن يطالب بفكّ قيود غيره. فما النور إلا سؤالٌ جريء، وما الظلام إلا صمتٌ موروث.
السويد
09.02.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…