خريطة مقابر السوريين: مأساة أمة مشرّدة بين المنافي والبحار

 إبراهيم اليوسف
إلى  شهداء الشاحنة
على امتداد أربع عشرة سنة من الحرب المدمّرة، باتت سوريا خريطة حزينة لمآسي أبنائها، لا ترسمها المدن والقرى كما كانت، بل شواهد القبور التي انتشرت في أرجاء العالم. مقابر الغربة التي احتضنت جثث السوريين في العراء، وتحت الثلوج، وبين أمواج البحار، صارت شواهد على عصر من التهجير والدمار لم تعرفه أمة من قبل.
هرب السوريون من الموت إلى المجهول، لكن ذلك المجهول كان غالبًا أكثر وحشية من الموت نفسه. فمات كثيرون من الأطفال والنساء والرجال اختناقًا في حاويات التهريب، وغرقًا في القوارب المطاطية التي لم تصل إلى برّ الأمان، وجوعًا أو بردًا في الغابات على حدود الدول التي أغلقت أبوابها بوجههم. جثث بلا شواهد، بلا أسماء، دُفنت في أراضٍ غريبة، لن تطأها أقدام ذويهم يومًا، ولن يُقرأ عليها الفاتحة.
وفي مكان ما، بعيدًا عن تلك القبور، يقف بشار الأسد، الذي شرّد الملايين من السوريين، يعيش المنفى النفسي والجغرافي، وقد أصبح هو الآخر نموذجًا للطاغية المطرود من مملكته. ربما يجلس الآن وحيدًا، في مكان لا يحمل فيه سوى صفة “لاجئ إنساني”، بعيدًا عن القصر والأسوار العالية. عندما ينظر إلى المرآة، يرى وجهًا ليس كما اعتاد أن يراه في خطاباته المزيفة، بل صورة مهزومة، ملامح طاغية فقد كل شيء. عيناه التي كانت تفيض ادعاءً بالقوة، أضحت الآن مليئة بالانكسار والخوف.
كيف يشعر الطاغية الذي كان يصدح بمزاعم بطولاته الوهمية؟ كيف يبدو له العالم الآن وهو يختبئ من عدالة التاريخ؟ ربما يتساءل مع نفسه: ماذا لو لم أولد؟ ماذا لو لم أكن رئيسًا؟ وهل كان هذا الوجه الذي يراه الآن في المرآة هو الوجه ذاته الذي خدع شعبًا كاملًا يومًا ما؟
أوهامه عن كونه “البطل” الذي واجه “المؤامرات الكونية” تبددت مع كل مقبرة جديدة حفرت في أراضي المنافي. يدّعي لنفسه صفة “المنقذ”، بينما أفعاله تركت وطنه جثة مفتتة، ومواطنيه بين قتيل ولاجئ وغريق.
وفي حين كان يمكن لسوريا أن تكون أعظم وأغنى دولة في الشرق الأوسط بثرواتها وشعبها، تحولت إلى وطن ينزف أبناءه. بدلًا من أن تكون خريطتها مفعمة بالحياة والمشاريع، رسمت عليها خريطة جديدة: خريطة المقابر السورية التي تنتشر على امتداد المنافي، من أعالي البحار إلى قلب الغابات، ومن الصحارى القاحلة إلى أطراف المدن التي لفظتهم ولم تأوهم.
بشار الأسد، رغم ادعاءاته الكاذبة، يقف الآن وجهًا لوجه مع الحقيقة: وطن حوّله إلى مقابر، ومصير لا يمكن أن يهرب منه مهما حاول. لا بطولاته الزائفة ولا شعاراته الخاوية يمكن أن تخفي حجم الخراب الذي سببه. سوريا التي كان يمكن أن تكون جنة في الشرق، باتت أرضًا بلا شواهد.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…