فيان دلي
اليوم، بعد أن سقط الطاغية مذلّاً ومهاناً، سأروي محنتي ومحنة كلّ كردي اضطُّهِد على أرضه وعُوقِب بسبب هويته ولغته. سأروي لكم عن تلك الندوب التي خلّفها الماضي في أرواحنا، والتي ما زالت تنزف، رغم تبدّل الوجوه والشعارات. أتذكّر يوم وبّخني معلّمي حين وقف أمامي يصرخ: «مرّة تانية إذا تحكي كردي رح قلّعك برّا الصف»، كأن لغتي جريمة، وممارستها ذنب لا يُغتفر. لا أعلم إن كان قد انضمّ لاحقاً إلى صفوف الثوّار، ينادي بالحرّية التي حرمني منها. مَن يدري، ربما أصبح واحداً من أولئك الذين يرفعون شعارات الحرّية، لكنهم عاجزون عن ممارستها بحقّ كلّ مَن يخالفهم.
أتذكّر معلّمة أخرى، يوم مسكت معصمي بقسوة، وانتزعت ألوان علمي الكردي منه. كنت طفلة، ولم أفهم يومها لماذا كانت هذه الألوان تثير كلّ هذا الغضب. أتُراها هي الأخرى انضمّت لاحقاً لصفوف المطالبين بالتغيير؟ ربما، لكنني أشكّ أن روحها عرفت يوماً معنى الحرّية.
هذا القمع، لم يتجسّد فقط في مواقف يومية متفرّقة، بل كان متوغّلاً في كلّ تفاصيل حياتنا:
أغانينا التي كانت خطراً على الأمن.
العصي والهراوات، التي كانت تطال الكردي كلّ عام؛ أثناء دقيقة الصمت، التي يقفها في ذكرى مجزرة حلبجة.
الغازات المسيّلة للدموع، التي كانت تُرمى في أعيننا ليلة عيد نوروز.
رجال الشرطة والجيش، الذين يملؤون الطرقات في كلّ عيد لنوروز.
النار الذي كان يُشعل على الجبال سرّاً كما لو أنها جريمة، لغتنا التي لم يُسمح لنا بتعلّمها إلا خفية، في البيوت المظلمة.
الكتب والجرائد التي خُبِّئت خوفاً من أعين المداهمات الطارئة.
الرعب من عناصر المخابرات، والموافقة الأمنية، التي هدّدت مستقبل وحياة الكثير من الشابّات والشباب الكرد في العمل والتعليم. معتقلو الرأي، مجرّدو الجنسية، مشاريع التعريب التي طالت المناطق الكردية، أسماء قرانا ومدننا التي عُرّبت، وأسماءنا التي حُرِبنا بها وحُرِمنا منها.
كلّ ذلك وأكثر، قد يجعل من الكرد أكثر الفرحين والسعداء بسقوط النظام، الذي مارس في حقّهم القمع والاستبداد بأبشع أنواعه. لكنها سعادة ممزوجة بخوف مبطّن، خوف مما يحمله الغد، خوف ممن يصيحون «الله أكبر»، ويتوعّدون بذبح الكرد وقتلهم. خوف ممن ركبوا موج الثورة، ومَن نادى بحرّيةٍ لا يقوى على ممارستها.
وبينما أسمع أصواتهم تصدح وتتغنّى بالتحرير، أتساءل: أين هم من عفرين وتل أبيض وسرى كانية؟ أين هم الثوّار من نحيب أرضي؟ تلك المدن المنسية التي هُجِّر أهلها باسم الثورة، أين هم من كوباني التي استبيحت وانتُهكت أبشع انتهاك إثر هجمات تنظيم داعش؟ لماذا لم نسمع صوتاً ينصفهم، أو ينادي برفع القهر عنهم؟
على الثائر الحقيقي أن يرفض الظلم في كلّ مكان. على كلّ مَن ينادي بالحرّية ألا يقبل انتهاك حقّ أيٍّ كان، وإلا فالحرّية لن تليق به!
يؤلمني الصمت، و يؤلمني أكثر هذا التعامي عن آلامنا الكردية، لذلك سأصرخ في العالم كلّه، هذا العالم الذي اختار أن يصم أذنيه عن نحيبنا، الذي أدار ظهره عن الألم الصارخ في أعين شعبٍ اتُهِموا تارة بالانفصاليين وتارة أخرى بالملاحدة الكفّار، هؤلاء الذين ذاقوا الأمرّين من كلّ الجهات.
مأساة عفرين المستمرّة:
ربما كانت لعفرين نصيبها الأكبر من الانتهاكات التي طالت الكرد. لكني لن أسرد هنا قصص الماضي عندما اقتُلِعوا من جذورهم بحجة «التحرير والثورة»، ولا عن شجرة الزيتون اليتيمة الوحيدة بعد أن اقتُلِعت أخواتها لتُترَك هناك هزيلة ومريضة، شاهدة على الخراب. ولا عن شواهد القبور التي حُطِّمَت وخُرِّبَت… لن أحكي قصص العنف الدامي، التي أنهكت الصغير والكبير منذ ستّ سنوات وأكثر.
بل أريد أن أصرخ في وجه الصمت وأروي مشاهد لقصص حيّة، نازفة، لأناس مُغيّبين ومَنسيين في مخيّمات الشهباء، الذين وجدوا أنفسهم بين المدفعيات والبندقيات الهائجة، ليواجهوا هجرتهم الثانية نحو مناطق – لا أدري إن كانت حقّاً آمنة – وتُركوا لرياح المجهول. عن أرتال وقوافل طويلة هربت من رعب الإبادة على الهوية خلال معارك التحرير. عن دواليب سياراتهم وجرّاراتهم، التي تفجّرت على الطرقات، ورحلة الهروب رغم الدواليب التالفة، عن افتراش الطرقات. أريد أن أروي قصص أطفالٍ ماتوا برداً وجوعاً ومرضاً، ورجل انتحر بعد أن وجد نفسه محاصراً بين مجموعة من المسلحين، ووجع امرأة وضعت طفلها على الطرقات، عن موته ونزفها الطويل، قصص عوائل تشتّت وأطفال ضاعوا وتشرّدوا.
قد تطول القصص وتكثر، لكن صوتي يتقطّع؛ إذ تعجز كلّ كلمات الدنيا عن التعبير أمام مشهد رجل مسنّ يبكي كرامته التي أُذِلّت وأُهينت. أو طفلة في الخامسة من عمرها، تُطعِم إخوتها الأيتام خبزاً جافّاً، وهي تجيب المذيعة ببراءة ولغة كردية: “Tûnene”، عندما تُسأَل عن والديها المفقودين: «غير موجودين».
قد تبدو هذه القصص بلا نهاية، وسط الفوضى الأمنية العارمة في البلاد، وقد يكون الخوف رفيق الكرد الدائم، وسط فضاء مدروس ومخطّط من الفتن الطائفية والعرقية وخطاب للكراهية والإقصاء أصبح ينتشر أسرع من النار في الهشيم، وقد يصبح المستقبل دامٍ أكثرَ من ذي قبل إن لم يقف الجميع وقفة حقّ أمام صرخات كلّ الأطياف التي ذاقت مرّ العذاب، ومنها صرخات شعبي الذي يشدو الأمان، الكرامة، ويبحث عن حقّ بسيط في الحياة.
لكن رغم كلّ هذا الألم، ما زلت أؤمن.
أؤمن بأن الإنسانية يمكن أن تعود إلى بلادي. أؤمن بالتعايش، بالسلام والمحبّة، بالقبول رغم اختلافاتنا. أؤمن بأن القلم، مهما بدا ضعيفاً، يستطيع أن يصل إلى قلوب مَن يسمعون.
هذه صرختي، لكلّ مَن يملك قلباً ينبض. لعلّ الحقيقة تُسمع ولو تأخّر صداها، لعلّ الغد يحمل لنا شيئاً من الأمل، لعلّنا نتذوّق طعم الحرّية بعد أزمان طويلة من الحرمان.