زينه عبدي
“ما كنا نعرف بشي وكنا قاعدين ع باب الدار، وفجأة سمعت صوت جارتي وبتناديني يا شيرين خلينا نطلع من هون عم بيقولوا إنه الفصائل جاية لتقتلنا”، هكذا تصف شيرين رهاب سماع ذاك الخبر كالصاعقة عليها مردفةً :”وللحظات لم تكن بالعديدة حتى ألقينا بأنفسنا في سيارتنا ولا نعرف وجهتنا القادمة، سوى أن الرعب سيطر على قلوبنا وعقولنا ..أمر أشبه بأن يدبوا في جسمنا النار ولكن دون انطفاء”.
التقيت شيرين وهي تفترش إحدى الطرقات بمدينة الرقة مع عائلتها المكونة من طفلتين بعمر السنتين والخمس سنوات مع زوجها أحمد ذا الشعر الأسود والذي كساه من الطرف الشمالي بياض ناصع كما الثلج الذي يأبى أن يذوب عكس حالته المنهكة التي نالت منه ولازالت. حال شيرين وأحمد كحال الكثيرين من المهجّرين قسرياً من أرض زيتونتهم “عفرين” إلى وجهات لا يعلمون عنها سوى أنه سيكون واقعاً مؤلماً وزمهرياً عليهم.
يقول أحمد، والبالغ من العمر 45 عاماً، ذا العيون العسلية المغرورقتان بالدموع القاسية والحانية :”ماذا أفعل الآن وأنا أرى طفلاي يبكون جوعاً وعطشاً وبردا ، أنا عاجز عن فعل أي شيء فقد تركنا كل شيء وراءنا حتى لباسنا لم نتمكن من جلبها معنا”، وسط الألم الذي يعتري قلب أحمد إلا أنه مازال على أمل العودة قريبة كانت أم بعيدة فيقول:” اضُطررنا التهجير وليس النزوح رغماً عنا خوفاً على أرواحنا وعلى كرامتنا من همج أولئك الأوغاد الذين باتوا كوحوش مفترسة تنقض على كل ما هو حي وميت”.
اضطر آلاف السوريين في بلدات عدة الواقعة شمال غرب سوريا للتهجير القسري بعد أن اقتحمت “هيئة تحرير الشام”، والمصنفة ضمن لوائح الإرهاب الدولية، مناطقهم منذ 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وذلك في ظل عملية عسكرية تحت مسمى “ردع العدوان” بغية تحريرها على حد قولهم، تلتها في 30 تشرين الثاني / نوفمبر 2024 عملية عسكرية أخرى تحت مسمى” فجر الحرية” قام بها الجيش الوطني السوري/ المعارض الممول تركياً في مناطق الشهباء التي تحكمها وحدات حماية الشعب وكذلك في شمال حلب، الأمر الذي أدى إلى التهجير القسري لآلاف العفرينيين باتجاه مناطق أخرى في روجآفايي كردستان والتي تُعتبر التغريبة الثانية لهم بعد تغريبتهم الأولى التي تعرضوا له عام 2018 عبر عملية” غصن الزيتون” المدعومة من تركيا أيضاً.
تتابع شيرين والدموع تنهمر من عينيها الخضراوتين كما زيتونات عفرين البهية على وجنتيها الورديتين كما تراب عفرينتها التي غادرتها أقدامهم إلا أن قلوبهم هناك، تلك القلوب الملأى بالحب الذي لا ينضب:” لحظة خروجي من بيتي تقطعت روحي قبل قلبي إرباً إرباً.. يا له من شعور مؤلم حد الانهيار وفي تلك اللحظة وقبل أن أقفل باب بيتي لملمت كمشة تراب من عبق منزلي الذي ترعرت فيه بتفاصيله الكردية، وتمنيت أمنية واحدة وهي أن لا تمس أقدام أولئك الأنجاس ثرى الحب والأمان الذين عشناهما على مدار عقودٍ كردية من الزمن”.
“قلبي يكاد ينفطر من شوقي لتلك البقعة الواقعة في روحي قبل قلبي، بل أكاد أجزم أنه يباد وبصمت رهيب ومخيف” هكذا تعبر شيرين عن ما آلت إليه حالتهم ، والحزن يخيم على محياها وباتت الشفتان مرتبكتين رفقة وجع ينال منهما واحداً تلو الأخرى.
يغلب أحمد صمت وسكون لا حد له حين ينظر إلى المفتاح الذي بين يديه، فبادرت لأسأله :” ما هذا المفتاح يا أحمد؟”، ليرد علي بخيبة مؤلمة مرسومة على شفتيه البنيتين الباهتتين من شدة البرد القارس:” هذا مفتاح قلبي.. هذا مفتاح الحب الذي كبرنا عليه في عفرين، لا أعلم ماذا أقول لكِ.. أنا مكسور ومقهور بكل معنى الكلمة وذرفت عيناه الدموع حتى بدا وكأنه غارق في محيطٍ لن ينجو منه من شدة البكاء الموجع”.
هُجِّر الكثير من ديارهم جراء سرعة التطورات الهائلة في المنطقة والتي بالكاد نستوعبها، حيث التغييرات الجذرية في المواقف توافقاً وتناقضاً مستندين في خطاباتاهم إلى الحقيقة تارةً وإلى التغييب عمداً تارة أخرى، الأمر الذي شأنه شأن العديد من العقول التي تؤيد وتساند بعض الجهات أحياناً وأحايين أخرى تحرض عليها بغض النظر عن التداعيات التي تجلب الدمار في كل حالاته.
“سنبقى نشم رائحة تراب أرضنا خلال قلوبنا التي تنبضها عشقاً وروحنا التي تتنفسها أماناً، ريثما في يومٍ من الأيام تعيدنا الحياة إلى ربوعها وأرضها الخصبة والتي باتت فارغة اليوم من أهاليها إلا من مات ودفن هناك وهنيئاً لهم، هُجِّرنا أمام مرأى العالم دون أن يرف لهم جفناً احتراماً لإنسانيتنا” حسب ما تقوله لنا فاطمة، النازحة العفرينية ذات ال52 عاماً، فالتهجير قاسٍ قد سرق منها ما سرق حتى جعلت مشاعرها مترامية هنا وهناك.
اعتقدنا أن الأوضاع باتت على مقربة من انخفاض الحِدة وأن الأمور تسير نحو الأمان منذ 2018 وإلى الآن إلا أن الأحدات قد غيرت مجراها عبر خريطة خلَّفت أثاراً كارثية مناقض تماماً لِما كنا نظنه، ولكن على ما يبدو أن الاقتحام والتوغل على أشد حالاته وباتت اللعبة واضحة، فهم يريدون الكرد حطباً يُحرَقون بها ويحرقون من خلالهم مَنْ حولهم، كما يتم استخدامهم وخاصة المدنيين منهم كلوائح تنفيذية في المعاهدات و المساومات السياسية والعسكرية القذرة.
أصبح المدنيون العزل هدفاً لتلك العمليات التي تسطر بطولاتها جهات عدة بمسميات “قتل الإرهابيين، لن نتوانى، عزيمتنا صلدة وصلبة، لن ينالوا منا نحن الأقوياء، ألقينا القبض، حررنا، تصدينا…”، إلا أن الأمر الذي يشغل تفكيري ليلاً نهاراً مستفهمةً منه :”لماذا هذا السبات ولماذا لا نستفيد من كل التجارب المريرة التي نمر بها وعلى وجه الخصوص الكرد، لماذا نحجب الحقيقة ولا نريد التعلم؟،لا يجب علينا الوثوق بأية جهة سبق وأن غدرت بنا وهاهم وللمرات الجمة يغدرون غير آبهين بنا وبمصيرنا.
“إيماناً منا بحبنا لوطننا وأرضننا مهما وطئت قدمانا الجغرافيات والحدود الأخرى، إلا أنه بات خير جليس لنا هو اللاشيء منذ أن ساءت أحوالنا والتي غرّبتنا للمرة الثانية على التوالي.. اللاشيء الذي يعوضنا عن كل شيء فقدناه، عن الشعور التوّاق للعيش بكرامة وحرية للالتقاء بحدود أرضنا التي سُلبت منا رغماً عنا، دون النظر إلى الكرامة فأبادوا فينا كل ما يدعو إلى التوازن المعادي ل الانهيار قولاً واحداً”، حسب ما يردفه لنا العم حسين المهجَّر قسراً والذي أودت به الأحوال ليستقر حالياً في مدينة الحب” قامشلو”.