عابرون في مهمة عابرة.. في منفذي المخطط

إبراهيم اليوسف

 

تتوالى المشاهد المؤلمة في سوريا، وكلما خُيّل لنا أن صفحة جديدة قد تُفتح لهذا البلد المنهك، تتفجر- في الوقت ذاته- حقائق صادمة تكشف حجم التعقيد والتشابك في الملفات. وصلتني مقاطع فيديو عديدة منها ما يظهر مقاتلات ومقاتلين ينعتهم بعضهم بالخنازير!، في إشارة إلى الكرد، وهم ينفذون مهمة عسكرية بامتياز تخدم الأجندة التركية. هذا التوصيف وحده كافٍ لإظهار حجم الكراهية الموجهة نحو شعبٍ له قضيته وهويته، ويكافح من أجل بقائه في وجه مخططات الإبادة والتشريد التي طالما استهدفته عبر التاريخ.

المشهد الرَّاهن يُظهر بوضوح أن تركيا جعلت هدفها الرئيس القضاء على الكرد في سوريا، سواءٌ  أكان ذلك عبر العمليات العسكرية المباشرة أو باستخدام وكلاء محليين، مثل “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقاً) وغيرها من الفصائل المسلحة. العمليات العسكرية التي تستهدف مناطق مثل” تل رفعت” و”منبج” ليست إلا جزءاً من استراتيجية أكبر تهدف إلى إعادة تشكيل الخارطة الديموغرافية والسياسية بما يخدم المصالح التركية.

هذا المخطط الذي تم الاشتغال عنه والإعلان عنه من قبل- الهيئة- ليس جديداً، وإن كانت ساعة الصفر وحدها مفاجئة، وإنما هو امتدادٌ لسياسات أنقرة التي تعتمد على تصفية الخصوم من خلال زرع الفوضى وإذكاء النزاعات. الفصائل التي تسير تحت راية تركيا- ولربما خبراء دوليين كبريطانيا مثلاً- تؤدي دوراً وظيفياً واضحاً في تنفيذ هذه السياسات، غير آبهةٍ بما تخلفه من دمار أو ما تزرعه من أحقاد تستمر لعقود، حتى وإن ادعت النعومة تجاه الكرد، وسائر المدنيين، لئلا يرمى بها مبكراً على النطع، كما داعش، وهذا يعني أنه رغم كونها عابرة، إلا أنها تخطط لإطالة عمرها التسلطي!

ثمة أمر جد مهم لابد من إيضاحه ألا وهو أنه لا يمكن عزل ما يجري اليوم عن مسؤولية النظام السوري، الذي تمسك بالسلطة بأي ثمن، حتى لو كان الثمن دمار البلاد وتشريد شعبها. تحالف النظام مع قوى مثل إيران وروسيا جعله يتحول إلى أداة بيد الآخرين، يُستخدم لضرب تطلعات السوريين في الحرية والكرامة. ورغم أن إيران اليوم تبدو منهكة تحت وطأة التحديات الداخلية والخارجية، إلا أن أثرها التخريبي في سوريا لا يزال قائماً.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يتوجه هؤلاء المسلحون لإبعاد الكرد بدلاً من مواجهة النظام أو تحرير المناطق من قبضته؟ الجواب بسيط: إن ما يجري هو استكمال لدائرة الخراب التي أرستها تركيا والنظام السوري بالتواطؤ مع قوى إقليمية ودولية.

داعش والنصرة.. وجهان لعملة واحدة

التاريخ القريب يؤكد أن تنظيم داعش الإرهابي وما تبعه من تشكيلات مسلحة، مثل النصرة وفصائل أخرى محسوبة على تركيا، ليست إلا أدوات لتدمير المنطقة. داعش لم يكن سوى وسيلة لتبرير التدخلات العسكرية الأجنبية وإعادة رسم الخرائط، تماماً كما تستخدم النصرة اليوم لتفتيت ما تبقى من سوريا.

هيئة تحرير الشام، النسخة المُعدَّلة من القاعدة، وهي ليست سوى امتداد للفكر المتطرف الذي دمَّر إدلب وأخضع أهلها لسلطة الترهيب ذاته. أليست هذه الهيئة هي نفسها التي خرج أحرار إدلب في مظاهرات ضدَّها؟ أليست هي من رحب بها بعض المعارضين السوريين بدعوى “تحرير إدلب”، ليتحول التحرير إلى احتلال جديد بثوب مختلف؟

ولا ننسى أن هناك من كان يروج لفكرة أن رأس النظام السوري كان مستهدفاً، وأن ما حدث في دمشق- في ظل تتالي تسليم واستلام أكثر من مدينة- لم يكن سوى انقلاب عليه. في تصوري، هذا الزعم لا يعكس الحقيقة؛ فالجهات التي تقف وراء المخطط لم يكن لها أي نية للإطاحة برأس النظام، الذي لا يزال يؤدي دوره الوظيفي بدقة لخدمتها. سواء تعلق الأمر بتركيا التي تستفيد من حالة الفوضى لإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لمصالحها، أو إسرائيل التي ترى في استمرار” النزاع” ضماناً لأمنها الاستراتيجي، أو حتى الولايات المتحدة، التي لا أجد في سياساتها ما يدعو للثقة. كل هذه الأطراف تدير اللعبة بمهارة، بينما يبقى النظام مجرد أداة في أيديهم.

الفصائل المسلحة.. مجرد أسماء لمسمى واحد

الفصائل المسلحة في سوريا، سواء كانت محسوبة على الائتلاف أو تعمل تحت إمرة تركيا، لا تختلف في جوهرها عن داعش أو النصرة. جميعها أدوات لتنفيذ أجندات خارجية على حساب الدم السوري. لا يمكن قراءة أفعالها بعيداً عن الإرث الدموي الذي تركه حزب البعث ونظام الأسد، واللذين أرسيا أسس العنف والتفرقة بين مكونات الشعب السوري.

هذه الفصائل تؤدي أدواراً إجرامية تكرس استمرار دورة العنف والدمار، وتحرم السوريين من فرصة حقيقية لبناء وطنٍ يليق بتضحياتهم.

وسط هذا الخراب، لا بد من الاعتراف أن للكرد قضية حقيقية يجب أن تُحلّ. الكرد ليسوا مجرد مكون من مكونات سوريا، بل هم أصحاب هوية وقضية وطنية ترتبط بكردستان الكبرى، التي قُسّمت بين الدول بفعل سياسات استعمارية ظالمة. لا

التغيير في خريطة الشرق الأوسط لا يجب أن يُبنى على الفوضى وإعادة إنتاج الكوارث. الدمار الذي خلفته داعش والنصرة والفصائل الأخرى لن يجلب إلا مزيداً من التوتر، ولن يحقق لأي طرف مكاسب مستدامة. إن سوريا اليوم هي سفينة واحدة، وإذا لم يدرك الجميع أن نجاتها تتطلب العمل المشترك، فإن الغرق سيكون المصير الحتمي للجميع.
إن استمرار مسلسل العنف والدمار في سوريا، بمشاركة كل هذه الأطراف المتناحرة، يفرض علينا جميعاً وقفة جادة لفهم طبيعة الصراع وتداعياته. ليس أمامنا سوى البحث عن حلول حقيقية تحفظ حقوق الجميع وتعيد للسوريين وطنهم. هذا المقال خالٍ من الاقتباسات احتراماً لنزاهة الطرح.

عود على بدء:

على وقع أصوات الرصاص والدمار، ظهرت مشاهد تُدمي القلوب وتُثير الغضب: مقاتلات جميلات شجاعات، بزيهن العسكري ووجوههن التي  تتشبث و تحتفظ بملامح الكرامة رغم الأسر، وقعن في أيدي مجموعة من المجرمين.  إذ لم تكن الكاميرا التي صورت تلك اللحظات إلا سلاحاً آخر، يُستخدم للتشهير بهن، بمن  ينتمين إليهم. بالكرد، ولإرسال رسائل سياسية تخدم من هم وراء هذا المخطط القذر.

كان المشهد  يعج بالإهانة المتعمدة.  إذ أُحاطْ هؤلاء المجرمون بهؤلاء النساء لإظهار انتصار زائف، وتأكيد أن الرسالة قد وصلت إلى الجهات التي رسمت خطوطاً حمراء واضحة بشأن المواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد). سواء كانت هذه الخطوط من الولايات المتحدة، التي تتباين مواقفها بين الدعم المعلن والحسابات السرية، أو من روسيا التي توازن مصالحها بين أطراف الصراع. ورغم كل تلك الخطوط، يبدو أن من يُنفذ المخطط يتجاوزها، مرتكزاً على تواطؤ دولي وأجندات محلية، ليجعل من هذه اللحظات المؤلمة شهادة أخرى على عمق الظلم الذي يتعرض له الكرد.

لكن المثير للإعجاب أن تلك المقاتلات، رغم القيود والإهانة، بدت عليهن علامات الصمود، ليظهرن كلبوات أصيلات يرفضن أن تتحول أجسادهن ورسائلهن إلى أدوات في لعبة دولية، ويؤكدن أن كرامتهن فوق كل الحسابات والمخططات.

المصادر:

حصيلة متابعات عامة ورؤية ذاتية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…

إبراهيم اليوسف إنَّ إشكالية العقل الأحادي تكمن في تجزئته للحقائق، وتعامله بانتقائية تخدم مصالحه الضيقة، متجاهلاً التعقيدات التي تصوغ واقع الشعوب. هذه الإشكالية تطفو على السطح بجلاء في الموقف من الكرد، حيث يُطلب من الكرد السوريين إدانة حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) وكأنهم هم من جاؤوا به، أو أنهم هم من تبنوه بإجماع مطلق. الحقيقة أن “ب ك ك”…

شيروان شاهين سوريا، الدولة ذات ال 104 أعوام البلد الذي كان يومًا حلمًا للفكر العلماني والليبرالي، أصبح اليوم ملعبًا للمحتلين من كل حدب وصوب، من إيران إلى تركيا، مرورًا بكل تنظيم إرهابي يمكن أن يخطر على البال. فبشار الأسد، الذي صدع رؤوسنا بعروبته الزائفة، لم يكتفِ بتحويل بلاده إلى جسر عبور للنفوذ الإيراني، بل سلمها بكل طيبة خاطر…