ما تسمى” المناطق المحررة” أم” المناطق المعاد احتلالها “– محاولة تصحيح التسمية

إبراهيم اليوسف

 

لا تزال مأساة عفرين، كما هو الحال في مناطق كردية أخرى تمثل رمزًا صارخًا للظلم والتدمير تحت مسمى “التحرير”.  إذ شهدت هذه المناطق موجة من التعديات والتجاوزات الإنسانية التي تجاوزت مجرد الصراع العسكري، لترقى إلى مستوى عمليات إبادة منظمة، تهدف إلى تغيير ديمغرافي يهدد الهوية الكردية التاريخية للمنطقة، مدعومة بتحركات تسعى لفرض ثقافة أجنبية بدلاً من أصالة المنطقة وعراقتها.

 

سياسة التهجير وتغيير التركيبة السكانية

 

عفرين، تلك المدينة الوادعة التي كانت الكثافة الكردية فيها تشكل نحو 99%، أصبحت اليوم مثالًا على كيف يمكن للتغيير الديمغرافي أن يتحول إلى أداة سياسية بامتياز. حيث تعرضت المنطقة لعملية تهجير جماعي من قبل قوات مدعومة من تركيا، تحت مظلة عمليات أُطلق عليها أسماء “تحريرية”، لكنها في الحقيقة كانت محاولة ممنهجة لإبعاد الكرد وإسكان عناصر من مناطق أخرى مكانهم، ما خلق وضعًا معقدًا ومجتمعًا مصطنعًا بلا تجانس طبيعي. السكان الذين تم إبعادهم من منازلهم وأراضيهم وجدوا أنفسهم مشردين، بينما أُسكن في منازلهم أناس غرباء جرى جلبهم من أماكن مختلفة، وجرى التعامل مع عفرين كغنيمة حرب، لا كمدينة لها تاريخها وسكانها الأصليون.

 

سرقة الثروة الطبيعية وتدمير البيئة

 

أشجار الزيتون، التي تعد رمزًا لأرض عفرين، كانت إحدى ضحايا هذا العدوان. قُطعت الآلاف من أشجار الزيتون المعمَّرة، والتي كانت تعكس ارتباط السكان بالأرض وتمثل جزءًا من هويتهم الاقتصادية. لم تقف الأمور عند قلع الأشجار بل تعدتها إلى سرقة المحاصيل وبيعها في الأسواق، ما حرم السكان الأصليين من مصدر دخل رئيس كان يعيلهم لسنوات. في مشهد آخر، تجسد العداء تجاه البيئة كأداة لتغيير وجه المنطقة، حيث تم الاستيلاء على الأراضي الزراعية وإعادة توزيعها على المستوطنين الجدد، ما أفقد المنطقة رصيدًا اقتصاديًا وبيئيًا كان ركيزة حياتية لأهلها.

 

التعديات على المنازل وأسلوب الإحلال السكاني

 

في تناقض صارخ مع حقوق الملكية الأساسية، سلبت المنازل من أصحابها، وأجبر هؤلاء السكان على العيش في خيام، بينما تسكن منازلهم أسر تم استجلابها لتغيير هوية المنطقة. طرد السكان من منازلهم لا يعكس مجرد رغبة في الاستيلاء على الممتلكات فحسب، بل يسعى بوضوح إلى طمس الوجود الكردي نفسه من هذه المنطقة وتحويله إلى مجرد ذكرى قد تندثر في حالة استمرار هذا الوضع دون رادع. هذه العملية الممنهجة، تسعى لخلق واقع جديد يسيطر عليه المستوطنون القادمين من الخارج، ويترسخ مع كل يوم يتكرر فيه هذا التهجير القسري.

 

الدعم العسكري والسياسي والتغاضي الدولي

 

الوجود التركي في عفرين لم يكن عفويًا، فقد جرى بترتيبات سياسية وعسكرية مستندة إلى تواطؤ دولي ضمني، بل وغطاء صريح في بعض الأحيان من القوى الكبرى كروسيا والولايات المتحدة، وهو ما أتاح لتركيا مجالًا واسعًا للتحرك واستكمال مخططاتها دون رادع حقيقي. إن انتشار الأعلام التركية واستخدام العملة التركية في عفرين يعكسان بوضوح نية تركيا في إلحاق المنطقة بمناطق نفوذها، بل وطمس الهوية الكردية عن طريق خلق حالة من التبعية الكاملة لها، متجاوزة بذلك حدود السياسة التقليدية إلى فرض ثقافي واجتماعي قسري يهدد محو هوية المنطقة.

 

الاستغلال العسكري و”المرتزقة” كأدوات لتنفيذ المخطط

 

اعتمدت تركيا على فصائل مسلحة متنوعة تتلقى الدعم الكامل منها، حيث يتم الترويج لها كفصائل “تحررية”، لكن الحقيقة تعكس دور هذه الفصائل كمرتزقة يتم توجيههم حسب الأجندة التركية. هذه الفصائل لم تُظهر أي التزام بأخلاقيات القتال، حيث ارتكبت انتهاكات إنسانية تتنافى مع كل الأعراف، بل ومارست أعمالاً منافية للقوانين الدولية، دون أي محاسبة تُذكر. رفع العلم التركي إلى جانب أعلام هذه الفصائل يؤكد أن الهدف الأساسي لم يكن مجرد دعم الثورة السورية، بل فرض الهيمنة وتحقيق مكاسب استراتيجية تستهدف الكرد وجوديًا وثقافيًا.

 

الصمت الدولي والتواطؤ

 

يظل الصمت الدولي تجاه ما يحدث في عفرين علامة استفهام كبرى، فالمجتمع الدولي، الذي طالما دعا إلى حماية حقوق الإنسان والعدالة، لم يحرك ساكنًا رغم وضوح التجاوزات والانتهاكات الصارخة في عفرين. هذا الصمت لم يكن إلا عاملاً مشجعًا لتركيا على الاستمرار في مخططاتها، خاصةً في ظل غياب أي ردود فعل حازمة من قوى مثل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، وهو ما يشير إلى تواطؤ دولي ضمني أو تجاهل متعمد يجعل هؤلاء السكان في عزلة مستمرة ومعاناة دائمة.

 

عفرين والهوية المهددة

 

عفرين، بتاريخها العريق وسكانها الذين عاشوا على أرضهم لأجيال، تواجه اليوم تهديدًا وجوديًا، حيث يتعرض الكرد لسياسة ممنهجة تهدف إلى إجبارهم على التخلي عن منطقتهم وتركها لمجموعات غريبة عن طبيعتها. هذا النهج ينطوي على مخاطر طويلة الأمد، فهو لا يقتصر على تبديل الأشخاص بل يسعى لمحو الثقافة والهوية الكردية  على نحو كامل، ما يضع المجتمع الكردي أمام تحديات تهدد بقاءه في هذه المنطقة. تهديد الوجود الكردي هنا ليس حالة طارئة بل مخطط طويل الأمد يسعى لتفريغ المنطقة من سكانها الأصليين وتحويلها إلى منطقة بلا هوية.

 

ما الحل؟

إعادة عفرين إلى أهلها ووقف التغيير الديمغرافي مطلبان رئيسان

 

الحفاظ على عفرين كمدينة كردية  في سوريا اليوم يتطلب تدخلًا دوليًا فوريًا يهدف إلى إعادة السكان الأصليين إلى منازلهم وأراضيهم، وإنهاء الاحتلال وإجلاء المستوطنين الذين جرى جلبهم لإحلالهم بدلاً من السكان الأصليين. إذ يتعين على المجتمع الدولي التحرك بجدية وتبني خطوات حازمة لضمان عودة هؤلاء الناس إلى أراضيهم، ووقف سياسات التغيير الديمغرافي التي تفرضها تركيا. بالإضافة إلى  أن إيقاف عمليات التهجير وإعادة حقوق الملكية لأصحابها الأصليين يمثلان حجر الزاوية في أي حل عادل ينصف هؤلاء الناس ويعيد لهم حقهم الطبيعي في الحياة على أرضهم.

 

النداء للضمير الإنساني العالمي

 

معاناة عفرين تجسد صرخة للضمير العالمي، فالأزمة تتجاوز مجرد قضية سياسية عابرة لتصبح قضية حقوق إنسان تقتضي الوقوف ضد الجريمة المنظمة وإدانة ممارسات الإبادة الثقافية والديموغرافية. لقد بات واضحًا أن صمت العالم لم يعد مقبولاً في ظل تكرار هذه الانتهاكات، وينبغي أن يكون هناك موقف جماعي لإنهاء هذه المعاناة وإيقاف نزيف عفرين. المنطقة تحتاج لجهود كل من يدافع عن الإنسانية وحرياتها للوقوف ضد هذه الجرائم وتقديم الحماية لأهلها المستضعفين، الذين يعانون كل يوم في ظل هذا الواقع الظالم.

 

لا يمكن لعفرين أن تعيش في سلام إلا إذا تم إبعاد المستوطنين عنها، وجرى الاعتراف بحقوق سكانها الأصليين في العودة إلى منازلهم وأراضيهم، مع ضمان وقف كل مظاهر الاحتلال التي فرضت عليها.

 


في المصطلح: المناطق المعاد احتلالها

 

إن النظر إلى ما يجري في عفرين والمناطق المجاورة يكشف بوضوح أن مصطلح “المحررة”  إنما هو كاذب ومزور ومن صنع المحتل، وهو لا يعكس حقيقة الأمر، بل يمثل مغالطة  وجريمة كبرى.  إذ إن المصطلح الأدق هنا هو “المناطق المعاد احتلالها”، فقد باتت هذه الأراضي تخضع لسلطة أجنبية بوساطة فصائل مسلحة، تسير بتوجيهات تركيا دون مراعاة لحقوق السكان الأصليين.  إن واقع الحال يعكس احتلالًا  مركباً جديدًا تحت مسمى تحرير وهمي ملفق ومزور، فهذه القوى لم تأتِ لتمكين أهل المنطقة من حقوقهم بل سعت لفرض سيطرتها بطرق شملت كافة أشكال التجاوزات والتهجير.

 

من هذا المنطلق، يبدو أن الحل” الأنسب” يتطلب إنهاء الاحتلال التركي للمناطق السورية وطرد الفصائل والمرتزقة الذين يسهمون في تعزيز الهيمنة الأجنبية. يتطلب الوضع إعادة عفرين والمناطق المجاورة إلى أهلها الأصليين، بمنحهم الحرية في إدارة حياتهم وأراضيهم بعيدًا عن أي تأثير خارجي يهدد مستقبلهم وهويتهم. استعادة هذه المناطق لأهلها لن يكون ممكنًا دون اتخاذ خطوات جدية لإبعاد القوى المحتلة وضمان الحماية الكاملة للسكان العائدين، وحمايتهم من أي تهديدات مستقبليّة.

شارك المقال :

One Response

  1. قصة من عالم الحيوان ،حيث المقارنة مع عالم الانسان مجحف بحق الأول.ان الفئران اجتمعوا لوضع حل للقط وهو يفتك بهم على حين غفلة…قبلوا اقتراحا بوضع جرس في رقبة القط….قال أحدهم من يضع الجرس في رقبته…!!!..مضى زمن الأقلام الثورية، وعدة كلاشينكوفات،للذهاب إلى الجبال.مالنا الا الله واخوة سارا والعم سام ،الله ينصرهم، نصرهم هو نصر للحرية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…