الأكراد ليسوا كشفاً آركولوجياً في تركيا!

  هوشنك أوسي

هذا الرجل موهوب.

بل كتلة من المواهب.

تدبَّجُ في حقِّهِ المدائح ومطوَّلاتُ القصائد العصماء، عربيَّاً وإسلاميَّاً.

ولشدَّة إتقانه المراوغات والمناورات، يصلح أيضاً أن يكون لاعب كرة قدم.

أحياناً، يقول عن نفسه: حارس مرمى الدولة.

وأحياناً، تجده قلب الهجوم.

وأحياناً، في الوسط، أو في الجناحين.

لكن، حارس المرمى، لا ينفع أن يكون مراوغاً وبهلوانيَّاً، ولا ينفع أن يكون من مواليد الأبراج الهوائيَّة، لئلا يسجّل على نفسه أهداف كثيرة.

ياله من موهوب؛ رئيس الوزراء التركي، وزعيم حزب العدالة والتنمية، رجب طيب أردوغان، إذ يمتلك طاقة هائلة في تدبيج الخطب الإنشائيّة المؤثِّرة التي تُدمِع الأعين، وتقطع أنياط القلوب وتدميها!!؟.
لكن، الكثير من الخُطب السياسيّة والثقافيّة في تركيا، ما أشبهها بالقنابل الصوتيَّة والدخانيَّة، التي تصدع الرؤوس وتصمّ الآذان، وتجعل الأعين تفيض دمعاً حارقاً، وتهيّج العواطف وتجيّش المشاعر، وتعمي الأبصار والبصائر.


إنَّه رجلٌ موهوب؛ يتحدّث عن الانفتاح على الأكراد، ويوصد الأبواب في وجوههم، واضعاً عليها أقفالاً ثقيلة!.

يتحدّث عن الموزاييك الحضاري، الإثني، الديني، المذهبي…، في تركيا، ويشير إلى ملحمة “مم وزين” للشاعر الكردي الكبير أحمدي خاني، ويمدح أغاني الفنان الكردي شفان باروار، في البرلمان التركي…، ثمّ يقول في اليوم التالي: “تركيا، شعبٌ واحد، لغةٌ واحدة، علمٌ واحد”!.

يقول: إنَّه أطلق مشروع حلّ القضيَّة الكرديَّة، سلميَّاً، ديموقراطيَّاً، وأنَّه مشروع الأخوَّة والسلام والعدالة الاجتماعيّة والمساواة، ثمّ يسلِّم الملفّ لوزير الداخليَّة بشير آلتالاي، ما يعني أن النظرة الأمنية للقضيَّة الكرديَّة ما زالت على حالها!.

وما يؤكّد ذلك، قول أردوغان في وصف “انفتاح الدولة” على الأكراد: إنَّه مشروع القضاء على الإرهاب!.

أنَّه أردوغان؛ يَعِدُ، ويُخلِف وعوده، وبل يتبرَّأ منها!.

ألم أقل لكم: إنَّه موهوب، يجيد القفز في الهواء، والتزلُّج على حوافّ الماضي!.

كثيراً ما ينطبق عليه المثل العربي الدارج: “كلام الليل يمحوه النَّهار”!.

وينطبق عليه أيضاً، قصَّة “الراعي والذئب”!
مثقفو تركيا أيضاً، لا يشذُّون كثيراً عن مواهب زعيمهم أردوغان في المراوغة، وحرفة الانزلاق للوراء.

هم أيضاً يطالبون بالانفتاح على الأكراد.

يكتبون في أعمدتهم، حول اكتشافهم للأكراد في تركيا، كلاماً من طينة؛ حين كان آباءهم موظفِّين أو ضبَّاط في المناطق الكرديَّة، كان لديهم جيران أكراد، وكانوا كذا وكذا!.

أو أنَّهم في يومٍ ما، مرَّوا بسيَّارتهم بقرية كرديَّة جبليَّة فقيرة، أو أنَّه كان لديهم صديق كردي، على مقاعد الدراسة…الخ!.

يعني، يتعاطون مع الملفّ الكردي، بكثير من التعالي، وكأنَّ الأمر، لا يعنيهم، وليسوا هم أيضاً متورِّطين، كمثقفين وإعلاميين، في إدامة وإطالة حرب تركيا على أكرادها!.

ويأتي حديثهم عن الوجود الكردي في تركيا، ودوره السياسي والثقافي والاجتماعي الدامغ، وكأنَّه كشف أركولوجي، تمَّ توَّاً، أو أنَّه من تفاصل الفلكلور والتراث والذاكرة، التي كانت على وشك النسيان!.

والمثقف التركي، في استحضاره لبصمات الأكراد، على ماضي وحاضر تركيا، وكأنَّه يتحدَّث على مضض، وبخوف، أو أنَّه هنالك مسدَّس مصوَّب إلى رأسه!.

لذا، نراه، يتحدّث بما يوحي بأنَّه انفتاح، ما يلبث لأن ينزلق لتكرار كلام أردوغان _ باشبوغ، من قبيل؛ “زعيم الإرهابيين… المنظّمة الإرهابيَّة… لن نفاوضهم…الخ”.

يقولون: هنالك أكراد، لكن لا يوجد شعب كردي!.

نحبُّ الأكراد، فُرادى، ولا نحبِّهم جماعات!.

نحبُّهم بالمفرَّق، ونكرههم بالجملة!.

يحقّ للكردي أن يتعلَّم لغته الأمّ، ولا يحقّ للشعب الكرديّ، أن نضمِّن حقّ أبنائه في تعلُّمهم لغتهم الأمّ في الدستور التركي!.

يقولون: نعم للحوار مع الأكراد، ولا للحوار مع الكردستاني!؟.

طيّب، والحال هذه، هل كانت تركيا تقاتل الأشباح طيلة 25 سنة!؟.

لا يسألون أنفسهم: هل نجحت إسرائيل في فصل منظّمة التحرير الفلسطينيّة (الإرهابيَّة)، وزعمها (الإرهابي)، الراحل ياسر عرفات عن الشعب الفلسطيني، حتّى تنجح تركيا في فصل الأكراد عن العمال الكردستاني وزعيمه!؟.

مع مَن تفاوضت جنوب أفريقيا؟ أليس مع (الإرهابي) و(زعيم الإرهابيين) نيلسون مانديلا؟.

مع من تفاوضت إرلندا؟ أليس من (الإرهابي) و(زعيم الإرهابيين) غيري أدمس؟!
المُشكل في تركيا، ألاّ أحد يودّ رؤية نفسه في المرآة، ناهيكم عن أن الأتراك، لا يحبّون شراء المرايا.

وما يزيد طين الأتراك بللاً؛ هو أنَّه لا يوجد أحد في أوروبا وأميركا، من يجازف بتصدير مرايا حديثة إلى الأتراك، عوضاً عن المرايا الأتاتوركيَّة، المحاطة بإطارات عثمانيَّة، قوميَّة، يساريَّة _ إسلاميَّة، منذ 86 سنة!
هكذا “انفتاح” تركي على الأكراد، أقلُّ ما يُقالُ فيه: إنَّه سعي لإركاع الأكراد، ودفعهم للاستسلام.

وهذا ما لم ولن يحصدوه، ولا ينبغي لهم، أن يحلموا بذلك.

ويبدو أنّ ساسة تركيا وعسكرها ومثقفوها، بعجرهم وبجرهم، أدمنوا رؤية بلادهم تنزف على حوافّ الهاوية!.

أدمنوا وضع الرؤوس في الرمال!.

يدركون ويفهمون أن أوجلان وحزبه، قد تنازل كثيراً من حقوق الأكراد، صوناً لوحدة تراب وشعوب تركيا، لكن لا يمتلكون الشجاعة بالاعتراف بذلك.

يدركون ويفهمون أن أوجلان، خدم تركيا، ويريد خدمتها، مثلهم، وربما أكثر، لكن، لا يجرؤون على الاعتراف بذلك!.

ينظرون ويقرأون تجربة إسرائيل، في تعاطيها مع منظمة التحرير الفلسطينيَّة، وتجربة إرلندا، وتجارب أخرى، لكنّ، لا زالوا يرددون كالببغاوات في إعلامهم: “زعيم الإرهابيين أوجلان… لن نتفاوض مع الإرهاب… لن نعفو عنهم…الخ!.

يدركون ويفهمون أن تركيا ينبغي لها أن تعتذر من الأكراد، لا العكس.

وأن هذا، ما يمليه التاريخ والحاضر والمصالح المشتركة عليها.

يتّهمون الأكراد بالانفصال، وهم من يدفع الأكراد نحو ذلك!.

يطالبون الأكراد بالثقة، تحت تهديد البنادق والتمشيطات العسكريَّة وقصف المدافع والطائرات التركيَّة، وسياسات الإنكار والتصفية!.

شأن الأتراك، شأن مَن كذب على نفسه كذبة، وصدَّقها!
في نهاية المطاف، يحيلك الفعل التاريخي في تعاطي تركيا مع أكرادها للقول: إذا كان زعيم تاريخي تركي، من طينة مصطفى كمال أتاتورك، قد وعد الأكراد بالحكم الذاتي، وقال لهم: إنّ الجمهوريّة هي شراكة تركيَّة _ كرديّة، وأخلف وعوده، فمن هو أردوغان، أو غيره، حتّى يفي بالوعود؟!
والحال هذه، ومع تجاهل أردوغان وباشبوغ وفريقهم، سياسة “منتصف الطريق” في التعاطي مع حزب العمال الكردستاني وزعيمه أوجلان، هذا يعني أن قادة تركيا، يريدون لها أن تبقى عائمة في بحار دماء أبنائها، لربع قرن آخر!.

هذا يعني أنَّ تركيا الحاليّة، تنزلق للوراء تباعاً، وما أشبهها الآن، بما كانت عليه السلطنة العثمانيَّة في خواتم أيَّامها!.

يعني، أنَّهم هم، من يدفع تركيا نحو تقسيم جديد، لكونهم يدركون أنَّ بلداً تنهشه الحرب، لا مستقبل له.

لكنَّهم عاجزون عن التخلّي عن أولغارشيتهم.

لذا، سيبقى قطار مستقبل تركيا، خارج سكَّته، ويسير في الاتجاه المعاكس، ما دام، أردوغان وباشبوغ، موهوبون، ومحترفون في إبقاء تركيا أسيرة الماضي.

فليس كلّ ما في الماضي، يستحقّ الاحترام، ناهيك عن استحقاقه للعبادة.

لا يمكن في تركيا أن تنظر للمستقبل، وتسعى للمُضي نحوه، وأنت معبَّأ بالماضي!.

وهل يحقُّ لنا أن نتحدّث كلاماً سلسبيلاً عن المستقبل، طالما نحن عبيد الماضي؟
كاتب وصحفي كردي
Shengo76@hotmail.com

تنويه: هذه المقالة نشرت جريدة “راديكال” التركيّة الترجمة التركية لها في يوم 10/9/2009، لكن بتصرف الجريدة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…