كان ذلك في يوم الجمعة 2 نيسان 2004م حوالي العاشرة مساءً، وكنتُ حينها في زيارةٍ لأحد الأصدقاء عندما أعلمتّني زوجتي أنّ قوةً مسلحةً كبيرةً وعدّة سياراتٍ من الأمن والقوات الخاصة داهمتْ منزلنا وقامت بتفتيشه، وعندما لم يجدوني اقتادوا معهم والدي البالغ من العمر 75 عاماً حينها إلى فرع الأمن العسكريّ، وبعد اتصال زوجتي بوقتٍ وجيزٍ تلقّيتُ اتصالاً آخر على هاتفي النّقّال وكان من أحد عناصر الأمن العسكريّ، حيث طلب مني تسليم نفسي وبسّط لي الموضوع، لكنّني كنتُ قد علمتُ بموضوع المداهمة واحتجاز والدي، وشعرتُ أنّه لا بدّ من مواجهة الموقف؛ فأعلمتُه بمكان وجودي، حيث جاء مع عنصرين من الأمن العسكريّ بسيارةٍ واحدةٍ وأخذوني إلى قسم الأمن العسكريّ في رأس العين، حيث كان والدي موجوداً وحينها سمحوا له بالذهاب وبقيتُ أنا.
بعد ذلك خاطبني رئيس القسم المدعو أبو هاني: دكتور دورسن أنتَ موقوفٌ لصالح اللجنة الأمنية وسوف يتمّ ترحيلكَ إلى مدينة الحسكة غداً.
أخذوا منّي الهوية الشخصية والهاتف ومبلغ المال الذي كان بحوزتي وباقي أشيائي الشخصية ونُقلتُ إلى غرفةٍ صغيرةٍ كان فيها عددٌ من الشباب الكرد من 7-8 أشخاص وكانوا بحالة يرثى لها وعليهم آثار تعذيبٍ وضربٍ وثيابهم ممزّقةٌ كما كانوا جميعاً معصوبي الأعين (مطمشين)، جلستُ في الغرفة حوالي ساعة تقريباً وبعدها سمعتُ صوت ضربٍ (خبط) عنيفٍ على باب الغرفة الحديديّ ودخلتْ مجموعةٌ من رجال الأمن وكان يقودهم المدعو باسل حوكان المعروف بأبي وائل، وكان حينها رئيساً لقسم أمن الدولة في رأس العين، حيث تقدّم منّي وقال: ماذا تريدون..؟ كردستان..! أليس لحم كتفيكَ من خير العرب..؟ فلم أجب عليه أو لم أجد في كلامه ما يستحقّ الإجابة، وبعدها خرج رجال الأمن، لكنّهم عادوا بعد 10 دقائق وهم يحملون العصي والكابلات ويصرخون بأعلى صوتهم ويشتمون بوضاعةٍ متناهية وأيضاً يقودهم باسل حوكان، وعند دخولهم هذه المرّة طلبوا من جميع المعتقلين أنْ يقفوا ووجههم إلى الحائط وتأكّدوا من عصب عيون الجميع وعصبوا عينيّ أيضاً، وبدأتْ حفلة تعذيبٍ لا توصف، فقد تحوّلت المجموعة إلى وحوشٍ أو حيواناتٍ شرسةٍ مسعورةٍ: صراخ- أصوات عالية- شتائم- ضرب- ركل- دفع باتجاه الجدران- الطرح أرضاً.. واستمرّت هذه الحفلة الهمجية الحيوانية حتى الفجر تقديرياً حوالي 5 ساعات حتى تعبوا هم وتعبنا.
هكذا ومن دون أيّ سؤالٍ ولا أيّة كلمةٍ ولا تحقيقٍ، بعدها أخرجوني بمفردي إلى باحةٍ صغيرةٍ أمام الغرفة، جلسوا حولي وبقيتُ واقفاً بينهم، بدؤوا بالتّحدّث بسخريةٍ وشماتةٍ حتى طلب منّي أحدهم أنْ أغنّي لهم، فطلبتُ ماءً فظنّوا لشدّة غبائهم أنّني أطلب الماء؛ كي أغنّي، فأحضروا الماء، شربتُ الماء وكنتُ شديد الظمأ.. بعدها قلتُ لهم: إنّ ما تفعلونه مخجلٌ.. هذا ليس سلوك بشرٍ؛ فساد الصمت وكأنّهم للحظة شعروا بالعار، حاول باسل حوكان أنْ يسألني بعض الأسئلة عن ما حدث؛ فأجبتُه باختصارٍ: ليس لديّ ما أقوله لكَ، وكان شعوري واضحاً: ليس لديّ ما أخسره وليفعلوا ما يشاؤون.
بعدها أزالوا العصابة عن عيني وأعادوني إلى الغرفة مع باقي المعتقلين بهدوءٍ، حتى أنّ العنصر الذي رافقني إلى الغرفة قال: أنا لستُ من هنا أنا من الأمن العسكريّ بدمشق وبلهجةٍ تُظهرُ وكأنّه يتبرّأ من تلك الأفعال..!.
في صباح اليوم التالي أيْ بعد 2-3 ساعات قاموا بتصفيد أيدينا وعصب عيوننا وتقييد كلّ اثنين معاً، وقاموا بنقلنا إلى سيارات(ميكرو باص) وطيلة هذه العملية لم يتوقّف الضرب والتعذيب لحظةً واحدةً، حتى أخذنا مقاعدنا في الميكرو باص، الذي انطلق وبدأتُ أقدّر تعرّجات الطريق لعلّي أدرك الوجهة التي تسير إليها الحافلة في غياب الرؤية، ومن معرفتي بالمدينة وطرقها أدركتُ أننا نتّجه إلى مدينة الحسكة، وطوال الرحلة لم يتوقّف الضرب والتعذيب، ولم تتوقّف الشتائم والإهانات، وكانوا يطلبون من المعتقلين ترديد شعارات حزب البعث حتى وصلنا إلى الحسكة.
في المحطّة الأولى في مدينة الحسكة ولا أعرف أين(أعتقد قسم الأمن العسكريّ هناك)، ولكنْ وصلنا إلى مكانٍ ما، حيث تمّ إنزالنا من الميكرو باص في مكانٍ مكشوفٍ، أتوقّع باحة البناء وكان بانتظارنا حفل استقبالٍ حسب تعبير السّجّانين، وحفل الاستقبال هذا تعذيبٌ جماعيٌّ وعشوائيٌّ يشمل كلّ الأساليب الضرب بالعصي- الكابلات- قبضات الأيدي- الصفع- الرّكل وكلّ ما يخطر على بال إنسانٍ مشوّهٍ وحاقدٍ..! ولاحظتُ من الأصوات والحركة أنّنا لسنا الوحيدين، بل كان هناك سياراتٌ أخرى كثيرةٌ وأناسٌ كثرٌ.. كان مشهداً جنونيّاً لا يصدّق، صراخ المعذّبين يختلط مع صياح وشتائم السّجّانين.. هستيريا مجنونة.
بعد انتهاء حفلة الاستقبال، وأقدّر أنّها استمرت نصف ساعةٍ تقريباً، أُدخلنا إلى مبنىً تمّ فيه تسجيل أسمائنا وأخذ بعض المعلومات الشخصية، ثمّ تمّت إعادتنا إلى السيارة التي سارتْ بنا إلى مكانٍ آخر، عرفتُ فيما بعد أنّه سجن الحسكة المركزيّ، حيث مكثتُ فيه شهراً كاملاً..
في مدخل سجن الحسكة أيضاً أقيم لنا حفل استقبالٍ، لكنّه وللأمانة كان أقلّ سخونةً من سابقه، ربّما بسبب كون القائمين عليه من الشرطة المدنية الأقلّ شراسةً من عناصر الأمن المدرّبين على الحفلات، ثمّ أُدخلنا إلى داخل السجن.
من الأمور السيئة جداً في هذه المرحلة كان السير بعيونٍ مغلقةٍ، فلم أكنْ أستطيع أنْ أرى أمامي خصوصاً في صعود ونزول الأدراج، طبعاً لا أحد حريصٌ عليكَ مهما حدث، طلبت من العنصر المرافق لي أنْ يخفّف ضغط الشّدّ على عينيّ، فقد كانتا معصوبتين بقطعةٍ من البلاستيك السميك معقودةٍ من خلف الرأس فأجابني: (حدّك جهنم.. لا تكون مفكّر جايبينك لهون حتى ندللك..!).
- مهجع الأحداث:
وصلنا أخيراً في نهاية هذه الرحلة، التي بدتْ أنّها لن تنتهي، إلى مكانٍ حيث أزالوا العصابة عن عينيّ، فرأيتُ أمامي مهجعاً كبيراً فيه حشدٌ من المعتقلين قدّرتُ طوله بـ15-20م وعرضه بـ4-5م، وكان مخصصاً للسجناء الأحداث (صغار العمر) تمّ إفراغه وتخصيصه لسجناء آذار 2004م، فيه حوالي 100-150 معتقلاً، انضممتُ إليهم، حيث استقبلني عددٌ من الشباب السجناء وقوفاً وبترحيبٍ ظاهرٍ من دون خوفٍ وأفسحوا لي مكاناً بينهم وساعدوني بالقعود، فلم يكن جسمي يساعدني على الحركة، ثمّ أقيم حفل استقبالٍ (تعذيب) في مهجع الأحداث للمعتقلين الذين كانوا برفقتي فرداً فرداً وأمام الجميع وذهلتُ حين أدركتُ أنّني غير مشمولٍ بهذه الحفلة، لكنّني عرفتُ السّرّ فيما بعد، وببساطةٍ كان هناك عددٌ من شباب رأس العين علموا بقدومي وتدخّلوا لدى الشرطة ودفعوا مبلغاً من المال مقابل إعفائي من هذه الحفلة وقد عرفتُ منهم داوود قوقياني رغم عسر وصعوبة الظروف التي كانوا فيها.
وجدتُ في هذا المهجع بين المعتقلين أشخاصاً أعرفهم، أستطيع أنْ أتذكّر منهم المحامي لقمان أيانة، والأستاذ محمود عمو، وسعدون شيخو، والمهندس محمد هادي عيسو، ونصر الدين برهك، وداوود قوقياني وكثيرين غيرهم.
بقيتُ في هذا المهجع حوالي أسبوعٍ قبل أول جلسة تحقيقٍ، توفّر لي خلال (الأسبوع) شيءٌ من الراحة والقليل من الطعام ومساعدةٌ كريمةٌ وتقديرٌ كبيرٌ من جيل الشباب المحيط بنا.
- جلسة التحقيق الأولى:
بشكلٍ يوميٍ ومن دون توقيتٍ محدّدٍ كانت تُتلى أسماء بعض المعتقلين وعادة يتراوح العدد بين 10-15 معتقلاً في كل مرةٍ وعلى الذين تُليت أسماؤهم أنْ يصطفوا في رتلٍ، حيث تُوثق أيديهم وتعصب عيونهم ويسيرون بهذا الرتل إلى التحقيق، وبعد أسبوعٍ جاء دوري وتُلي اسمي.. دخلت الرتل المعتاد بالإجراءات المعتادة وسرنا عبر الممرّات والأدراج هبوطاً وصعوداً وبمجرّد خروجنا من باب المهجع بدأ الضرب والتعذيب والدفع والإسقاط المقصود أحياناً وصولاً إلى مكان التحقيق، حيث جلسنا (التربيعة) على الأرض وهنا أيضاً كان يجب أنْ أتوقّع من العناصر الذين يمرّون بجانبنا أنْ تركل أو تصفع المعتقل هكذا.. وتستمرّ هذه الحالة وهذا الانتظار من 2-3 ساعات، ويمكن لأحد العناصر أنْ يجلس على ظهر المعتقل إنْ لم يجد كرسياً من قبيل الاستراحة، وحدث ذلك معي مرّتين مرّةً في الحسكة ومرّةً في دمشق في سجن صيدنايا. بعد حوالي ساعتين أُدخلت إلى غرفة التحقيق، بدت لي غرفة فخمة مفروشة بالسجاد ورائحتها عطرةٌ وهادئة جداً والجميع يتعاملون باحترامٍ شديدٍ مع الأشخاص الجالسين في الغرفة ويخاطبونهم دائماً بحاضر سيدي (أتوقّع اللجنة الأمنية التي شكّلت وقتها) لم أعرف عدد الجالسين، لكنّني سمعتُ صوت 3 أشخاصٍ تحدّثوا معي بلغةٍ راقيةٍ وهادئةٍ وبألفاظٍ مهذّبةٍ، كما تحدّثوا في السياسة والأفكار ومفاهيم وطنية وبعض الأسئلة من قبيل: ما الذي جرى؟ وما علاقتكَ بالذي جرى؟ خرجت من هذه الجلسة بشيءٍ من التفاؤل أنّ المسألة يمكن أنْ تعالج بعقلانيةٍ في المستويات الأعلى للسلطة، ثمّ أعادوني إلى مهجع الأحداث، بعدها بثلاثة أيامٍ تُلي اسمي مرّةً أخرى وبنفس السيناريو، أخذونا إلى مكان التحقيق، ولكنْ هذه المرّة إلى غرفةٍ أخرى، غرفة باردة غير مفروشةٍ، فيها مجموعةٌ من الأشخاص الذين بدؤوا بالصياح بصوتٍ عالٍ مع شتائمَ وجعلوني أستلقي على الأرض على وجهي أثناء الاستجواب مع تهديداتٍ شديدةٍ جداً، ولكنْ من دون تعذيبٍ جسديٍّ يذكر، استمرّ ذلك حوالي ساعة، ثمّ أعادوني إلى مهجع الأحداث.
بعد ذلك بيومين طُلبتُ للتحقيق للمرة الثالثة، ولكنْ هذه المرّة بسيناريو مختلفٍ من حيث القسوة، وأُدخلتُ إلى غرفةٍ فخمةٍ، يبدو أنّها كانت لكبار الضباط أو اللجنة الأمنية، لم يكن هناك أيّ حديثٍ، بل سؤالٌ واحدٌ محدّدٌ ومختصرٌ جداً قال لي: لا أريد كلاماً أنا أريد معلوماتٍ.. ما دورك في الأحداث بشكلٍ محدّدٍ، فأجبتُ بالنفي وباختصارٍ أيضاً، استدرك السائل: (إذاً أتركك كم يوم تفكر وتتذكر منيح..) وعند الخروج أدركتُ أنّني لا أسير بنقس الطريق الذي أتيتُ منه، سألتُ العنصر المرافق إلى أين..؟ فأجابني: إلى المنفردة.
- في المنفردة:
السجن الانفراديّ: أُدخلتُ إلى السجن الانفراديّ الذي كان عبارةً عن غرفةٍ صغيرةٍ أقلّ من 3 أمتار طول وحوالي متر ونصف عرض، لها بابٌ حديديٌّ أسودُ اللون محكم الإغلاق، ونافذةٌ صغيرةٌ حوالي 20×30 سم مغلقةٌ بالكامل بصفيحةٍ حديديةٍ (صاج) وقد أُحدِثتْ بعض الثقوب في صفيحة الحديد وكلّ ثقبٍ يمكن أنْ يمرّ من خلاله قلم رصاصٍ، هذه الثقوب تدخل بعض الإضاءة والهواء إلى الغرفة، على أرض الغرفة كان هناك غطاءٌ (بطانية) عسكريٌّ واحدٌ فقط متّسخٌ بشدّةٍ ولا توجد وسادةٌ.. ولسوء الحظّ في تلك السنة جاء نيسان بارداً جداً، كنتُ استخدم الغطاء كفراشٍ ولحافٍ بنفس الوقت، أجعله طبقتين واحدة تحتي والثانية فوقي وحاولت أنْ استخدم الحذاء كوسادةٍ- ولا أدري لمن كان الحذاء الذي انتعلتُه في ذلك اليوم في تلك الفوضى العارمة- ولسوء الحظّ كان الحذاء قديماً جداً وله رائحةٌ لا يمكن احتمالها، حتى أنّ وجوده معي بالمنفردة أصبح مصدر تعذيبٍ إضافيٍّ؛ فوضعتُه في أقصى الغرفة الصغيرة، فلم يكن من الممكن حتى التّخلّص منه، وشرّ البليّة ما يضحك..!.
الطعام في المنفردة كان عبارةً عن ثلاثة أرغفةٍ من الخبز (الحاف) يومياً مع عبوة ماءٍ بلاستيكيةٍ فقط ولا شيء آخر، في اليومين الأول والثاني استطعتُ تناول بعض الخبز والماء، ولكنْ وبدءاً من اليوم الثالث جعلني الماء البارد والخبز البارد أشعر بآلامٍ في المعدة وغثيانٍ، ولم تعد لديّ قابليةٌ لتناول الخبز وأصبحتُ أمضي اليوم كاملاً لا أتناول إلا نصف رغيفٍ أو أقلّ من الخبز، وانتابني شعورٌ شديدٌ جداً بالتعب والإرهاق مع قلّة النوم، في النهار كنتُ أضع عيني مباشرةً على الثقوب الموجودة في صفيحة الحديد التي تغطّي النافذة؛ كي أشاهد شيئاً في الخارج، كنتُ ألمح بعض العصافير وأحياناً حمامةً تحطّ على سطح السجن قريباً من المنفردة، كان هذا المشهد تسليتي الوحيدة طوال ستة أيامٍ أمضيتها في المنفردة والباقي ظلامٌ باردٌ وجوعٌ.. استنهاض القوى الداخلية لتقوية الصبر والجلد وتقوية الإرادة كان أمراً في غاية الأهمية للاستمرار في أيام السجن الانفراديّ..
مضت الأيام الستة للمنفردة بعدها أعادوني إلى مهجع الأحداث الذي كان خاوياً هذه المرة، فلم يكنْ فيه سوى عددٍ قليلٍ من السجناء، حيث تمّ ترحيل عددٍ كبيرٍ منهم إلى دمشقَ(سجن صيدنايا)، وقسم تمّ إطلاق سراحه.. وهذا العدد القليل الباقي تمّ نقله، وأنا منهم، بنفس اليوم إلى مهجعٍ آخر اسمه مهجع النساء وهو مؤلّفٌ من غرفتين فقط، كلّ غرفةٍ طولها حوالي 5م وعرضها 3م، جُمعنا في غرفةٍ واحدةٍ وكان عددنا 24 شخصاً، أصبح المكان مكتظاً بشدّةٍ مع نظافة قليلةٍ وكانت الغرفة مفروشةً بالأغطية العسكرية فقط، وبقينا هكذا ننتظر، لكنْ لا شيءَ يذكر بالنسبة لنا، وعلمنا أنّ الـ24 شخصاً أُطلق عليهم اسم مجموعة التّحفّظ، وكان معنا في المجموعة المهندسين محمد هادي عيسو وخليل فرمان وبقينا هكذا حتى أتممتُ الشهر، وفي بداية أيّار تمّ ترحيلنا إلى سجن صيدنايا بدمشق، وكان في الغرفة المجاورة لنا الشّابّ فرهاد محمد عليّ.
- رحلة صيدنايا:
في 1 أيّار أو 2 أيّار، أو ربّما ليلة 1 أو 2 أيّار وفي حوالي الساعة 11 ليلاً تمّ الطلب منّا أنْ نحضّر أنفسنا ونجمع ما لنا من أشياء، فهم بعضنا أنّه إخلاء سبيلٍ، لكنّني شخصياً لم أكن متفائلاً بذلك، وضعتُ أشيائي البسيطة في كيسٍ بلاستيكيٍّ وهذا كلّ التحضير حتى الساعة 12 ليلاً، حيث تُليت أسماؤنا كالعادة ووقفنا في رتلٍ، تمّ تقييد أيدينا وتقييد كلّ شخصين معاً وجعلونا نصعد إلى سيارة السجن، وهي شاحنةٌ لها صندوقٌ حديديٌّ فيه نوافذ قليلةٌ وصغيرةٌ، صعدنا جميعاً إلى ذلك الصندوق الذي بالكاد وسعنا وجلسنا على مقاعد ضيّقةٍ صغيرةٍ مثبتةٍ على محيط الصندوق من الداخل وبعضنا على أرضيّة الصندوق بسبب ضيق المكان، وهكذا انطلقت بنا السيارة ونحن مقيّدي الأيدي من الحسكة إلى دمشق من دون طعامٍ أو شرابٍ أو استراحةٍ، وصلنا حوالي الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي إلى سجن صيدنايا.. كان بانتظارنا على ما يبدو أنّه تقليدٌ من التقاليد العريقة للسجون السُّوريّة وهو حفل الاستقبال وكان الحفل جماعياً، دواليب يحشر فيها جسم ابن آدم حشراً بحيث لا يعود يقوى على الحركة ليصبح كتلةً واحدةً تلتصق ببعضها، ثمّ يبدأ الجلد بالكابلات وأدواتٍ مطاطيةٍ ويختلط صياح الجلادين بصراخ المعذَّبين في حفلٍ جماعيٍّ يذكّر بيوم الحشر حسب تصوير الملالي والمتصوّفين.. وبعد حوالي ساعة تقريباً هدأتِ الأصوات وتوقّف الحفل وبدؤوا بتسجيل الأسماء في قوائم، وبعدها تمّ نقلنا إلى مهجعٍ في أحد الطوابق العليا وكان صغيراً طوله حوالي 5 أمتار والعرض مثله وبداخله دورة مياهٍ، لكنّ المهجع كان من دون كهرباءٍ ولا مياهٍ، وكان مفروشاً بأغطيةٍ عسكريةٍ متّسخةٍ، والمياه يجلبها السّجناء من خارج المهجع بأوعيةٍ بلاستيكيةٍ(سطول) للاستعمال لكلّ شيءٍ غسيل وشرب وحتى لدورة المياه.
الطعام كان شحيحاً جداً، ومع طول المدة بدأتْ تظهر خلافاتٌ ومشاكلُ بين السجناء على حصص الطعام بسبب الجوع، مثلاً على وجبة العشاء كانوا يرمون إلينا بعددٍ من حبّات البطاطا المسلوقة لا يكفي ولا يتناسب مع عدد السجناء، فكانت تنشب شجاراتٌ بالأيدي بين السجناء، ولاسيّما بعض الشباب الصغار عمراً وكانت هذه معاناة أخرى مؤلمة لنا إلى أقصى حدود الألم وتحوّلت هذه الخلافات إلى مناكفاتٍ دائمةٍ، وخلقتْ حالةً من التوتر أرهقت الجميع.
لم يكنْ التعذيب في سجن صيدنايا ممنهجاً أو بسبب، بل كان عشوائياً ومزاجياً حسب مزاج عناصر الأمن والشرطة العسكرية الموجودين، والذين يبدو أنّهم كانوا مخوّلين أنْ يفعلوا ذلك..
الحمّام في سجن صيدنايا: بعد حوالي 20 يوماً من إقامتنا بسجن صيدنايا يبدو أنّنا اتّسخنا بشكلٍ كبيرٍ، وأصبحت لأجسادنا رائحةٌ كريهةٌ لم نكن نشعر بها كثيراً، ولكنّ كلّ من كان يدخل إلى المهجع من عناصر أمنٍ وحرسٍ…إلخ، كان يطلب فتح الباب أولاً حوالي 5 دقائق، ثمّ يدخل إلينا، وأصبحوا يتحدّثون بشكلٍ علنيٍّ: لهم رائحةٌ كريهةٌ تخنق، فأخذونا إلى الحمّام وكنّا في عشرة مهاجعَ متجاورةٍ، في كلّ مهجعٍ من 15 إلى 20 معتقلاً جميعهم من الكرد ومن معتقلي آذار 2004م.
أُحضِر الجميع إلى قاعةٍ ضخمةٍ وُضِع فيها أوانٍ معدنيةٌ(طناجر) كبيرةٌ جداً مليئةٌ بالماء الدافئ وُزِّعَ حولها قطعٌ من الصابون وعلبٌ بلاستيكيةٌ صغيرةٌ هي في الأصل علب اللبن المبستر وطلبوا من جميع المعتقلين خلع ملابسهم بالكامل، الجميع أمام الجميع، أصبحنا عراةً بالكامل وجلسنا حول هذه الطناجر بشكل حلقةٍ وبدأنا الاستحمام وفق تعليمات الحرس، مثلاً ينادي الحرس: كلّ شخصٍ يدلك ظهر الشخص الذي أمامه.. حتى نادى أخيراً: انتهى الحمام- إلى الملابس.
حاول شخصٌ من المعتقلين عدم خلع ملابسه بالكامل خجلاً وقد كان رجلاً مسنّاً، فجعلوه يخلع كامل ملابسه وأوقفوه على منصةٍ عاليةٍ؛ ليشاهده الجميع عارياً عقاباً له.
أمضينا شهراً كاملاً في سجن صيدنايا، وفي الأسبوع الأخير تُليت أسماءٌ كالعادة للمطلوبين للتحقيق وكان من بينهم اسمي، ذهبتُ وكان سيناريو يوم الذهاب للتحقيق مشابهاً جداً لما هو موجودٌ في الحسكة من حيث القسوة جيئةً وذهاباً من وإلى التحقيق من الضرب والإهانة وإغلاق العينين، وكانت الأسئلة مكرّرةً.
بعد يومين استُدعيتُ للجلسة الخامسة والأخيرة من جلسات التحقيق، ولأول مرّةٍ سألوني عن معالجة الشباب الكرد المصابين بجروحٍ في الانتفاضة من دون إعلام السلطات، وكانت هذه التّهمة الوحيدة الصحيحة ولم أنكر ذلك، ودافعتُ عن موقفي فيما يتعلّق بهذا الأمر.
أمّا التّهم الأخرى الكثيرة والمتعدّدة والغريبة أحياناً التي وُجِّهتْ إليَّ خلال خمس جلسات تحقيقٍ مطوّلةٍ جداً، فكانت في مضمونها سياسيةً تتعلّق بأحداث آذار، مثل التحريض على العنف وتعبئة الشعب ضدّ الدولة والمشاركة في قيادة المظاهرات والاتصال بجهاتٍ أجنبيةٍ..إلخ.
بعد عدة أيامٍ وكنتُ قد أكملتُ شهراً في سجن صيدنايا طلبني مدير السجن وكان برتبة عقيد، كنيته يوسف، استقبلني في مكتبه وبعد حديثٍ قصيرٍ من مجاملاتٍ وكلامٍ طيّبٍ نادى سائقه الخاصّ وقدّمه لي على أنّه كرديٌّ من عفرين، وطلب منه أنْ يتحدّث باللغة الكردية، ففعل السائق، وقال العقيد إنّه يثق بالكرد، وطلب من سائقه أنْ يوصلني إلى الباب الرئيسيّ للسجن وأخبرني أنّه تمّ إخلاء سبيلي.
خرجتُ من الباب الرئيسيّ بعد أنْ أوصلني السائق إليه باتجاه الطريق العام، وأنا بشعرٍ حليقٍ بشكل فوضويٍّ ومتّسخٍ ولحيةٍ طويلةٍ وثيابٍ مهلهلةٍ وفي قدمي صالونةٌ(شحاطة) بلاستيكيّةٌ وفي جيبي القليل جداً من المال، صعدتُ بالسرفيس الذي نقلني إلى ساحة العباسيّين، وأول ما فعلتُه اشتريتُ (باكيت دخان) وجلستُ على الأرض أنظر حولي إلى كلّ شيءٍ، وبقيتُ جالساً هناك حوالي الساعة، ثمّ انتقلتُ إلى الفندق الذي رفض استقبالي بسبب هيئتي وشكلي إلى أنْ شرحتُ له ما جرى معي، فقبل واتصلتُ بأقربائي في دمشق ليأتوا إلى الفندق، وانتهى ذلك الفصل من الجحيم.
- محطّاتٌ مميّزةٌ في هذه الرحلة في الجحيم:
- أناسٌ (أفراد) طيّبون قابلتهم في تلك الظروف:
– جلال علان: وهو عنصرٌ من عناصر الأمن العسكريّ في رأس العين، وهو شابٌ في مقتبل العمر حوالي 25 سنة من الساحل السّوريِّ، شعرتُ من البداية أنّ هذا الشاب غير مرتاحٍ لما يحدث ولا يشارك في الأعمال التي تجري، حوالي الساعة العاشرة والنصف من المساء الأول وقبل حفلة التعذيب وجدتُ جلال واقفاً قرب الباب، أشار إليّ ألا أتكلّم وخلع بسرعةٍ رداءه الصّوفيّ (كنزة) ورماها باتجاهي، قال لي: البسها الجّوّ باردٌ، وفعلاً كان الطقس بارداً في نيسان ذلك العام، إلا أنّ كنزة جلال لم تقني برودة الطقس فحسب، بل ساعدتني بسماكتها في تحمّل الضرب بالعصي والكابلات، كانت بالنسبة لي نعمةً في ذلك الظرف ورافقتْني كنزة جلال طيلة مشواري، بقيتُ أكنُّ له الودّ لسنواتٍ بسبب ذلك الموقف وحزنتُ كثيراً عندما علمتُ أنّه قضى في 2012م في رأس العين على يد الفصائل المسلّحة.
– أبو رامي: وهو مساعدٌ في الأمن العسكريّ في رأس العين، أربعينيٌّ، أيضاً من الساحل السُّوريِّ، لم يشارك أبو رامي في الأعمال العدوانية ضدّ المعتقلين ولم يكن يتكلّم، كان صامتاً أغلب الوقت.. حوالي الساعة الخامسة أو الخامسة والنصف صباحاً وبعد انتهاء تلك الحفلة القذرة من التعذيب، وكنتُ منهكاً جداً، ناداني هذا الرجل واصطحبني إلى غرفته، أبدى أسفه الشديد لما يجري وعدم رضاه وتحدّث عن لامعقولية الأمر، بعدها قدّم لي من عشائه بعض الطعام(جبن- مربى..) وأعطاني غطاءه(بطانية) الخاصّ به، كي أتغطّى به واعتذر أنّه لا يستطيع مساعدتي في شيء.. زارني أبو رامي بعد خروجي من السجن وعبّر عن نفس المشاعر كما اليوم الأول، وبقي يتردّد إلى العيادة بين وقتٍ وآخر وفي زياراتٍ قصيرةٍ من دون أنْ يتحدّث عن تلك الفترة، وقضى أيضاً على يد الفصائل المسلحة في رأس العين 2012م.
– الشرطي الغريب في سجن الحسكة: أعتقد هو رجل شرطةٍ لم أكن أعرفه، كان يرتدي زيّاً مدنياً غالباً، ويحمل هاتفاً لاسلكيّاً(سيناو) ، كان يقوم على الحراسة أيام السجن الانفراديّ، فوجئتُ به يطرق الباب عليّ وقال هل تدخن..؟ قلتُ: نعم، فقدّم لي سيجارةً وبعدها طرق الباب وإذْ به يحمل صحناً (مقلاة) فيها بعض الطعام (بيض وكوسا) وقال: افتح خبزتكَ، فردتُ رغيف الخبز الذي كان معي وقام بسكب نصف الطعام وقال هذه وجبتي تناولها أعلم أنّكم لا تتناولون غير الخبز هنا، وانصرف.. وفي اليوم التالي قدّم لي سيجارةً أيضاً وقطعةً واحدةً من الجبن وسألني هل تريد التحدّث مع أهلكَ..؟ فقلتُ: نعم، فقال لي أطلب إذاً الذهاب إلى دورة المياه، ففعلتُ ذلك، رافقني إلى دورة المياه(كالعادة) وعند دخولي إلى دورة المياه أعطاني جهاز الهاتف اللاسلكي (سيناو) وقال لي: اختصرْ.. بسرعةٍ، فتحدّثتُ مع أهلي بضع كلماتٍ طمأنتهم وخرجتُ، أخذ جهازه ومضى، ولم أشاهد ذلك الرجل بعد ذلك، كان قليل الكلام جداً، كان يبدو نبيلاً.. وعندما خرجتُ من المنفردة وأصبحتُ في المهجع المسمّى مهجع النساء طلبني أحد عناصر الأمن السياسيّ للتحقيق، وسألني عن الرجل الذي قدّم لي الطعام وأعطاني الهاتف لأتحدّث به، لكنّني أنكرتُ ذلك كلياً، ربما دفع ذلك الرجل ثمن ما قام به..!.
– الشرطي عباس: في سجن الحسكة، قام ومن تلقاء نفسه بالاتصال بأهلي (خارج أوقات دوامه الرسميّ) واستطاع أنْ يدخل لي خلسةً بعض المال وبعض الملابس الداخلية و(بيجامة) نوم.
– مدير سجن الحسكة العميد علي العزاوي: تلك الليلة وعندما طلبوا منّا الاصطفاف في رتلٍ؛ تمهيداً لنقلنا إلى سجن صيدنايا، كان خليل علي العزاوي حاضراً، نظر إلينا واستعرضنا فرداً فرداً، وكان معظمنا حفاةً، فأمر بإحضار أحذيةٍ بلاستيكيةٍ (شحاطات) لكافّة المجموعة المؤلَّفة من 24 شخصاً ومن حسابه الخاصّ، وكان حريصاً على عدم معاملتنا بقسوةٍ حتى صعودنا إلى السيارة في سجن الحسكة المركزيّ، وحتى في الطريق المعاملة لم تكن قاسيةً، ربما بسبب تعليماته؛ لأنّ العناصر التي رافقتنا إلى دمشق كانوا من شرطة سجن الحسكة المركزيّ.
– أشخاص بمنتهى السوء عرفتهم في هذه الرحلة:
– باسل حوكان: رئيس قسم أمن الدولة في رأس العين: في فترة أحداث آذار، دخل إلينا (إلى مهجع المعتقلين) في قسم الأمن العسكري، نظر إلينا وقال: (شو مبين الشباب محترمينكن هون)، رغم أنّ معظم المعتقلين كانوا قد تعرّضوا للضرب والتعذيب، إلا أنّ ذلك وعلى ما يبدو لم يعجبه، وبعد سيلٍ من الشتائم البذيئة والكلام الوضيع الذي وجّهه لنا، خرج غاضباً من المهجع لنتفاجأ به وبعد دقائقَ قليلةٍ قادماً مع مجموعةٍ من 7-8 عناصر وبأيديهم عصي وكابلات.. وبدؤوا تلك الحفلة التي لم يكن لوحشيّتها حدودٌ، وبعد إنهاك المعتقلين الشديد قاموا بطرحهم أرضاً وحشر عناصر الأمن أحذيتهم في أفواه المساجين، وكان باسل حوكان نفسه يقوم بهذا العمل بنفسه وشاهدتُه من تحت غطاء العين الذي كان يتحرّك وينزاح قليلاً بفعل الحركة العنيفة، ويرفقُ ما يقوم به بشتائمَ لا تليق بالبشر، هذا القذر كان يدّعي أنّه يحمل إجازةً في الحقوق..! ومن المهمّ هنا التنويه بأنّه ارتكب هذه الجرائم في غير القسم الذي يعمل به ويرأسه (أمن الدولة)، ولم يُطَلَبْ منه حتى التحقيق أو التحدّث إلينا، فعل ذلك فقط بدافع الحقد والكراهية، فعل ذلك بالتواطؤ مع رئيس قسم الأمن العسكري برأس العين حينها وكان يدعى: أبو هاني، وهم أصدقاءٌ ومن مدينةٍ واحدةٍ، وسمعتُ بعد خروجي من السجن أنّه تدخّل في عمل قسمٍ آخر، وربّما كان هذا هو سبب عدم رضا بعض عناصر الأمن العسكريّ حينها وفي هذه الحفلة بالتحديد كُسِرت ذراعي اليسرى.
– ياسر من عناصر أمن الدولة في رأس العين: يبدو أنّ هذا الرجل كان يعمل بدافع حقده، إضافةً إلى وحشيّته الشديدة في التعذيب، ففي مهجع الأحداث تقدّم منّي أكثر من شابٍّ من الشباب الكرد وقدّموا لي الاعتذار وهم خَجِلُون جداً، لم أفهم في البداية: لماذا تعتذرون لي.. قالوا: نعم نحن ذكرنا اسمكَ في التحقيق، وقلنا إنّك أنت من حرّضنا على التّظاهر وعلى تحطيم مؤسسات الدولة، فقلتُ لهم: لماذا..؟ وهل شاهدتُكم أصلاً قبل التّظاهرات..! فأجابوا: لا ولكنْ هو ياسر في أمن الدولة الذي أجبرنا على ذلك وقالوا حرفياً: إنّ ياسر كان يملي علينا أسماءً ويجبرنا بالتعذيب الوحشيّ الذي لا يطاق أنْ ندلي بشهادةٍ ضدّهم ولم يكن أمامنا خيارٌ.. رأينا الموت بأعيننا (من شدّة التعذيب)؛ فقلنا كلّ ما أراده، ومن بين الأسماء التي أملاها علينا كان اسمكَ، وطُلِبَ منّا أنْ ندلي بشهادةٍ ضدّك بالتحريض.
– كَسْرُ ذراعي:
في اليوم الأول وأثناء الحفلة الهمجيّة التي قادها باسل حوكان، شعرتُ بألمٍ شديدٍ في ساعدي الأيسر، لكنّ أجواء المعتقلات لم تكنْ مناسبةً أبداً للحديث عن طلب المساعدة الطّبّيّة، وكنتُ أتحاشى الحديث مع أيّ سجّانٍ ولو لأمرٍ بسيطٍ؛ لقسوة المعاملة، واستمرّت هذه الحالة حتى اليوم 17 أو 18 وكنتُ حينها في مهجع النساء والأجواء قد تبدّلت للأفضل قليلاً، وكان برفقتي حينها المهندس خليل فرمان والمهندس محمد هادي عيسو وآخرون، ومع مرور الزمن كان ألم ذراعي قد ازداد وكنتُ أشعر بحرارةٍ (سخونة) في مكانِ الرّضّ وتورّمٍ، وأيقنتُ أنّ الموضوع هو كسرٌ في أحد عظميّ الساعد؛ فطلبتُ المساعدة الطّبّيّة من السّجّان (الشرطة المدنية) وفعلاً قاموا بتلبية طلبي وتمّ نقلي بسيارةٍ مخصصةٍ للسجناء تشبه سيارةَ الإسعاف، ولكنّها مسيّجةٌ بشبكٍ حديديٍّ وليس فيها معدّات إسعافٍ.. تمّ نقلي إلى المشفى الوطنيّ بالحسكة 19 أو 20 نيسان، إلى قسم الجراحة العظمية، حيث أُجري تصويرٌ شعاعيٌّ لساعدي الأيسر وتبيّن أنّ هناك كسرٌ في نهاية عظم الزند الأيسر.. قُدِّم لي العلاج بوضع جبيرةٍ وأشرف على العلاج الأطباء سمير منيرجي أخصائيّ الجراحة العظمية وأحمد جنيد الطبيب المقيم (المتدرّب) في الجراحة العظمية، ثمّ أُعدتُ إلى السجن المركزيّ في الحسكة، مكثتُ في المشفى حوالي الساعة تقريباً.. وبينما كانت السيارة تستعدّ لمغادرة المشفى وعلى مدخل الإسعاف؛ فوجئتُ بأحد أقربائي وهو الطبيب محمود سمو أخصائيّ أمراض العين (وكان يعمل حينها كطبيبٍ مقيمٍ في نفس المشفى) يقفز إلى السيارة.. قبّلني بسرعةٍ وأعطاني علبة سجائر كانت بجيبه (مفتوحة/ مستعملة)، قامتْ الشرطة بإنزاله بسرعةٍ، لكنْ من دون زجرٍ أو قسوةٍ.
في ختام هذه الشهادة على أحداث آذار 2004م، أو انتفاضة قامشلو أودّ أنْ أؤكّد أنّني كنتُ أميناً في كتابة هذه الشهادة، كتبتُها ليس بدافع الدعاية ولا التهويل، ولا بقصد الإساءة لأحدٍ، بل بدافع تدوين وتوثيق الحقائق كما حدثتْ في بلدي سوريا، شهادة على سلوك الأجهزة الأمنية مع الشعب السُّوريّ، كتبتُها للأجيال القادمة؛ لإدراك آثار القمع والتعذيب النفسية والمجتمعية، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أميل بشدّةٍ للعمل في مجال المجتمع المدنيّ وحقوق الإنسان ومناهضة التعذيب، وأدركتُ دور منظّمات المجتمع المدنيّ والمنظمات الحقوقية السُّوريّة في عملية التنمية وتعزيز ثقافة المواطنة وسيادة القانون، دورها كمكوّنٍ مجتمعيٍّ هامٌّ ولا بدّ من تطويره وتنميته للنهوض بأيّ مجتمعٍ.
* من معتقلي الانتفاضة: طبيب وحقوقي كردي سابق
One Response
قرأت هذا المقال المحزن وتلكم الأحداث المشينة من رجال الأمن الذين هم رجال تعذيب فقط وليسوا رجال امن … لكن يعجز اللسان والمفردات عن وصفهم. إنما يدل ذلك على شوفينية الحكومة وعنصريتهم تجاه الكورد على وجه الخصوص…
وتبقى هذه الوثيقة للأجيال القادمة…
بورك نضالكم…