أحمد حسين
الإنشقاق الذي حصل بين صفوف أول حزب سياسي كردي في سوريا في الخامس من آب لعام ألف وتسعمائة وخمسة وستين ، وضع ” البارتي ” بشقيه أمام امتحان صعب وشائك ، وأدخلهما في نفق مظلم ، لم يستطيعا الخروج منه حتى يومنا هذا ! ! ولكي يجاري الطرف المنشق رياح التغيير ، ارتدى رفاقه ” لبوساً ” عمالية مزدانة بشعارات ، وأقوال ، ومفاهييم ماركسية ـ لينينية ، واختطوا لأنفسهم نهجاً مشبعاً بتلك الأفكار والمفاهييم ، وآمنوا على الصعيد الإجتماعي بالفرز الطبقي .
وعلى الصعيد النظري غدا معتنقو النهج مدمنين على ماجادته عبقرية ماركس ، وأفرزته ديناميكية لينين في تطويع النصوص لتلائم الواقع السوفياتي المتنوع والمتعدد الأطياف ، وانهمكوا بالبحث والتنقيب عن كل مايتعلق به.
وعلى الصعيد النظري غدا معتنقو النهج مدمنين على ماجادته عبقرية ماركس ، وأفرزته ديناميكية لينين في تطويع النصوص لتلائم الواقع السوفياتي المتنوع والمتعدد الأطياف ، وانهمكوا بالبحث والتنقيب عن كل مايتعلق به.
وقد انضوى تحت جناحيه ، وتحت تأثير ثقافة ومفاهيم النهج المبهرجة ، وعوامل أخرى ، الكثير من الشرائح الإجتماعية الكردية المختلفة ، ولاسيما الجيل الشاب الطامح دوماً التماهي مع كل تغيير وتجديد .
ولأن النهج كان بطبيعته تصادمياً ، وفق جدلية الديالكتيك ، والمادية التاريخية في مجال الصراع الطبقي .
فقد تولد لدى أعضائه الإيمان المطلق بحتمية انتصار الشيوعية بقيادة الطبقة الكادحة ، واندحار الرأسمالية وأذنابها .
ووفقاً لذلك ، انشغل الكل ، وانغمس في حمى الدفاع عن الطبقة الكادحة من عمال ، وفلاحين ، وصغار الكسبة ، واضفاء هالة من القدسية عليها .
لأنها ووفقاً للحتمية التاريخية ، سيكون الإنتصار من نصيبها ، والإندحار والإنكسار والهزيمة للرأسمالية بقيادة الإمبريالية العالمية .
أما الطرف الأخر ، ووفقاً لمفهوم ” الفرز الطبقي ” الحتمي والمقدس ، فقد وصم ” باليمين الكردي ” ، بكل مايحمله هذا المصطلح ، وأيضاً ، وفق رؤية الطرف الأول ، كل الموبقات والشرور ، باعتباره يعيش على هوامش موائد الرأسماليين والبورجوازيين .
وقد ظل هذا الطرف بعيداً عن كل ماكان يجري في الضفة الأخرى ، ومقتنعاً ومنسجماً مع طرحه السياسي المحافظ على الصعيد الوطني والقومي .
وقد انضوت بين صفوفه ـ تماماً كالطرف الأول ـ شرائح اجتماعية مختلفة ، دون أي اعتبار للإنتماء الطبقي .
أما الملفت في هذا المجال هو : اتخاذ طرفي الصراع مواقف تحالفية كردستانية متناقضة ، ومخالفة مع توجهاته ، وقناعاته ، ونهجه .
فكان الطرف المنشق يتباهى ، ويختال بتحالفه مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق ، ويدعي تأييد ومباركة قائد الثورة المرحوم مصطفى البارزاني له .
وظل هذا الطرف يتدفأ بنيران الثورة ، ويرقص طرباً على وقع التصريحات والأقوال الصادرة من قياديين في الثورة الكردية ، أو المفبركة والمصاغة من عناصر في قيادة هذا الطرف بهدف تعزيز موقعه الجماهيري .
مع أن قيادة الثورة لم تؤمن في يوم من الأيام بالنهج الماركسي ـ اللينيني ، ولم تحاول تبنيه ، بالرغم من بقاء المرحوم المصطفى البارزاني في منفاه ، وأكثر من عقد من الزمن ، وبين ظهراني الدولة السوفياتية الشيوعية ، غير أنه بقي محافظاً على نهجه القومي بعيداً عن التعصب ، والإنجرار إلى حمأة الصراعات الإيديلوجية التناحرية في ذلك الوقت .
وقد تمكن الطرف الثالث الذي ظهر على الساحة السياسية في بداية السبعينات من القرن المنصرم من الإحلال محل حزب اليسار في تحالفه مع الحزب الديمقراطي الكردستاني ـ العراق ـ وقيادته ، ساحباً بذلك البساط من تحت رجلي هذا الطرف .
وهو الأمر الذي دفعه ليلقي بنفسه في حضن بعض الفصائل الفلسطينية ، واتخاذه موقعاً آمناً له ، وراح يطلق نعوتاً ومصطلحات مستقاة من قاموس نهجه المستورد ، ويلصقها بالقائد المرحوم البارزاني ، ونهجه ، وثورته في كردستان العراق .
أما الطرف الموسوم ” باليمين ” فقد ظل صادقاً مع حليفه مام ” جلال الطالباني ” ، معلناً من دون خوف ، أو وجل ، أو مواربة تأييده له ، معلناً وباستمرار مصداقية هذا الطرف ” الماركسي ـ الماوي ” ، وحتى في تخندقه مع الأعداء ، وامتشاقه السلاح في وجه الثورة الكردية ، والتطبيل لتلك الإتهامات الصادرة من تلك الأوساط ، ومحاولة تسويقها في الشارع الكردي السوري ، وكاتب هذه السطور كان واحداً من المطبلين ، والمزمرين ، والمهللين لتلك الشعارات ، والمروجين لها ، وبتأثير مباشر من ” الدوغمائية ” الحزبية الشمولية الفاسدة .
وإزاء هذه الحالة المرضية ، انزلقت الأطراف الثلاثة في صراعهم ” الهولوكستي ” الثقافي والفكري إلى مستويات ، أقل مايقال فيها بأنها كانت رخيصة ، ودونية عززت الأحقاد القروية ، والطبائع العشائرية ، وزادتها نظرية ” الصراع الطبقي ” تجذراً وتمدداً ، ومن خلفها الدسائس والمؤامرات الأمنية التي كانت تستهدف أصلاً تسطيح القوى الكردية بمختلف مشاربها وانتماءاتها ، والعمل على استفراغها من مضامينها ، وبالتالي خلق حالة من اليأس القاتل لدى أبناء الشعب الكردي ، وهو الحاصل على أرض الواقع شكلاً ومضموناً .
وفي حمى هذا الصراع العبثي انطلقت ” رحلة ” الإنشقاقات بين مفاصل النخب السياسية الكردية .
وقد عززت ، ووفرت الأجواء والمناخات المناسبة لهذه الرحلة : الفردية ، والأنانية ، والأمية ، والنزعة العشائرية ، والمذهبية الحزبية ، والصراعات العبثية ، والحالة الأمنية وذلك من دون معايير أو ضوابط .
وعلى الرغم من حدوث تغييرات وتبدلات وتحولات جذرية على الصعيد العالمي ، وعلى صعيد المنطقة .
والتي أدت بكثير من الدول ، والقوى السياسية ، والإقتصادية ، والثقافية إلى التقارب ، والتحالف ، والإندماج في ” حالة استقطابية ” مدهشة ، بغرض إثبات نفسها في وجه المتغيرات ، أو الإستحواذ على استحقاقات المرحلة ، باستثناء بعض الدول والأحزاب الشمولية والتي جرفت رياح التغيير بعضها ، وظل بعضها الآخر مصرة على البقاء في قواقعها النتنة ، تمارس فعل الإجرام مع شعوبها ، والشعوب المجاورة لها .
أما الأحزاب الكردية ، فبدلاً من تماهيها مع رياح الديمقراطية ، وتمثل قيمها في الحياة الأسرية ، والإجتماعية ، والسياسية .
ظلت منشغلة بصراعاتها التناحرية ، ومتسرعة في تشكيل أطر سياسية متنافرة ، متباعدة ، مختلفة الرؤى والتوجهات سرعان ماكانت تتبخر حدودها الجليدية أمام شمس الواقع والحقيقة .
وظلت مستمرة على عادتها في إنتاج ” ولادات قيصرية ” وخاصة في العقدين الأخيرين،حتى بلغت حصيلة الولادات في الداخل ست ولادات بالتمام والكمال .
أما في الخارج فقد نمت بثور وثآليل ، وخاصة بعد عام ألفين وثلاثة ، طمعاً في دفقات اوكسيجينية عبر الرياح الأمريكية العاتية ، وعلى أمل إعادة ” سيناريوهات ” مشابهة للحالة العراقية .
لكن وبسبب ضعف في قراءاتها السياسية ، سرعان ماضمرت ، أو يبست ، أو تجمدت في قواقعها بسبب بعدها عن جذورها ، وتربتها ، ومياهها .
إن الصيغ السياسية التي طبقتها القيادات الكردية في سوريا ، والمتمثلة في لجان ” تعاون وتنسيق ” و ” تحالف ” و ” جبهة ” ، وتطرح اليوم صيغ أخرى ، دينية ” كالمرجعية ” ، أوسياسية ” كالمجلس ” ، و ” لجنة تنسيق ” ، هي كلها في حقيقتها إعادة لصيغ قديمة ، و” برتوشات ” تجميلية منمقة ، لايمكن الركون إليها ، مالم نغربل الحالة التنظيمية ، والسياسية ، ونرجع كل شيء إلى الجذور ، ونبحث معاً الخلفية الثقافية والفكرية لهذه التنظيمات ، ومن ثم نبحث آنذاك عن الإطار المناسب لكل تنظيم .
فتجربة العقود السابقة ، قد أثبتت بما لايدع مجالاً للشك ، بأن الخلفية الثقافية والفكرية ، قد تحكمت بالمسارات طوال العقود المنصرمة ، وأوضحت بجلاء السمات المختلفة والمتباينة في الأدبيات السياسية لهذه الأطراف ، وقد كانت هذه الخلفية سبباً من الأسباب الرئيسية في تفجير ” تلك الأطر ” ، أوتقزيمها .
ذلك لانعدام التوافق في الرؤى والمواقف .
إن الطرف اليساري تدرع بالفكر الماركسي ، اللينيني ، الستاليني ، الماوي ، وتلحف بشعارته المجلجلة .
ولكي يكون أكثر انسجاماً مع اطروحاته ، والإيديولوجية التي يؤمن بها ، صعد من وتيرة شعاراته ، ومازال مستمراً في رفع ” سقف ” المطاليب والحقوق .
أما الطرف الآخر ، فقد ظل محافظاً على نهجه الكلاسيكي ، المتسم بالنزعة الواقعية المتمثلة بمقولة : ” السياسة فن ممارسة الممكن ” على حد أقوال أنصاره ، ولم يخرج طوال مسيرته عن إطار المطالبة بالحقوق السياسية ، والثقافية ، والإجتماعية ، متفادياً الشعارات ، والسقوف العالية .
أما الطرف الثالث { البارتي } ، فقد التقى مع التقدمي { اليمين } على الصعيد الوطني في المطالبة بنفس الحقوق ، والمطاليب ، واختلف معه بحدة على الصعيد القومي .
وفي هذا السياق ، وبالتمعن العميق للخلفية الثقافية ، والتربية التنظيمية ، والتطلعات الوطنية لكلا الطرفين ، نتلمس بوضوح ، فيما لو استثنينا العامل القومي ، أن ثمة إطارين اثنين يمكنهما استيعاب هذا الكم المخيف من الأحزاب الكردية في سوريا ، وهما :
ـ مايمكن أن نطلق عليه إطار اشتراكي ، يساري ، ليبرالي : وينضوي في ظله كل الأحزاب ذات الجذور الواحدة ، والخلفية الثقافية المتقاربة ، والتي ولدت بشكل قسري ، منذ أواسط الستينات من القرن المنصرم ، وحتى الآن .
ويمكن أن تجري ضمن الإطار ، عمليات تذويب ، أو صهر ، أو ضم بين هذا الطرف أو ذاك ، للحصول على أقل عدد ممكن من الأحزاب الممثلة لهذا الإتجاه .
ويمكن لهذا الإطار فيما لو تمكن من ترتيب وضعه الداخلي ، وبلورته ، أن يشكل قوة تنظيمية قوية ، تستطيع توفير مناخات ليبرالية ، حداثوية ، تخلص الذهنية الكردية من ثقافة الإستبداد ، والتخلف ، والإتكالية ، والتبعية .
ـ والإطار الثاني : يميني ، محافظ ، اصلاحي : ولاتكمن المشكلة هنا أيضاً في اختيار الاسم ، بل في مدى اغناء وتعميق الفكر الواقعي ضمن إطار ديمقراطي حقيقي ، يستند على ركائز الحرية ، والعدالة ، والمساواة ، وتطبيق البرامج النظرية المستقاة من منظومة القيم الديمقراطية ، وترجمتها على صعيد الفرد ، والأسرة ، والحزب ، والعمل على استقطاب الناس حولها .
وتنضوي في ظله المجموعة الثانية من الأحزاب الكردية التي تتشابه ، وتلتقي في الرؤى والإطروحات ، وخاصة على الصعيد الوطني ، ويمكن لهذا الإطار فيما لو تجاوز ” العامل الكردستاني ” ، ورتب بيته الداخلي بما ينسجم مع الحالة الوطنية كقاسم مشترك أعظمي ، أن يحقق إنجازات مبهرة في مجال تجذير ثقافة الديمقراطية في الواقع الكردي ، واستقطاب تيارات اجتماعية ، وثقافية ، ومالية مهمة ، قد يدفع الواقع الجديد بالأحزاب المنضوية في ظله بإلغاء الحدود الحزبية ، وتحقيق وحدة اندماجية .
واعتقد أن هذه الحالة الإستقطابية ضمن إطارين ، ولكل إطار معالمه الثقافية ، والفكرية الواضحة ، والبعيدة عن محفزات تصادمية ، يمكنها بذلك الإنتقال إلى ” حالة صحية ” ، منسجمة مع المستجدات والمتغييرات ، ومتجاوزة ” التعددية المرضية ” وبالتالي ستتحول إلى عامل جذب واستقطاب قوي للنخب التجارية ، والعلمية ، والفكرية ، والثقافية ، وتحولها إلى رافعة حقيقية ، تنتشل أبناء شعبنا من أنفاق اليأس ، والضياع ، والذوبان !! .
وكذلك ستساهم هذه الحالة في خلق مناخات تجديدية تبعث الإنعاش ، والحيوية ، والحركة بين صفوف الجالية الكردية السورية في المهاجر ، وستقضي بهذا الشكل أو ذاك على تلك البثور والثآليل التي نمت في ظروف خاصة ، وبحجة وجود فراغ في الساحة السياسية الكردية السورية .
وستخلق آلية تنظيمية تتلائم مع الواقع المعاش ، حيث يغلب عليها الطابع المدني ، بعيداً عن ضوابط بين الجالية الكردية ،
إن ” وجهة النظر ” هذه مستخلصة من تجربة حزبية طويلة ، أضمها إلى عشرات ، بل مئات الإجتهادات الأخرى ، والتي تعبر عن مدى عمق المعاناة ، والآلام المبرحة التي يتعرض لها أبناء شعبنا الكردي .
وليس هذا فحسب ، بل علينا أن نعي جيداً ، وبعيداً عن التنظير ، بأن سمات المرحلة المتمثلة بمفاهيم الديمقراطية ، والحرية ، والتعددية يجب ألا تخفي عن أنظارنا الملامح الحادة من الصراع ، والصدام ، والتشابك في المنطقة الموسومة ” بالشرق الأوسط الكبير ” ، في ظل خيمة ” الفوضى الخلاقة ” ، التي لاتزال تتابع سيرها بتؤدة ، وتوحي لمن يملك بصراً وبصيرة ، بأن ثمة مناطق حبلى بعوامل التفجير ، هي في طريقها إلى الدخول في دائرة النار .
.
فإن لم تحسب هذه الأحزاب حسابات الغد ، وما سيحمله هذا الغد من مفاجآت مرعبة ، أقلها ، وفي ظل المتغييرات الدرماتيكية المتوقعة ، إقدام بعضٍ من رعاع العشائر العربية المعبئة والمشبعة بإيديولوجية البعث العنصرية ، والمطعمة بلعاب الطائفية البغيضة ، التي ألبستها إياها الأجهزة الأمنية ، على اكتساح المناطق الكردية ، وتوزيع ” الأنفال ” من بيوت ونساء وذراري ، على ذئاب شرسة فطمت من أثداء ” غولة ” لاتزال تتحكم بمصائر الشعب السوري بالحديد والنار .
ولأن النهج كان بطبيعته تصادمياً ، وفق جدلية الديالكتيك ، والمادية التاريخية في مجال الصراع الطبقي .
فقد تولد لدى أعضائه الإيمان المطلق بحتمية انتصار الشيوعية بقيادة الطبقة الكادحة ، واندحار الرأسمالية وأذنابها .
ووفقاً لذلك ، انشغل الكل ، وانغمس في حمى الدفاع عن الطبقة الكادحة من عمال ، وفلاحين ، وصغار الكسبة ، واضفاء هالة من القدسية عليها .
لأنها ووفقاً للحتمية التاريخية ، سيكون الإنتصار من نصيبها ، والإندحار والإنكسار والهزيمة للرأسمالية بقيادة الإمبريالية العالمية .
أما الطرف الأخر ، ووفقاً لمفهوم ” الفرز الطبقي ” الحتمي والمقدس ، فقد وصم ” باليمين الكردي ” ، بكل مايحمله هذا المصطلح ، وأيضاً ، وفق رؤية الطرف الأول ، كل الموبقات والشرور ، باعتباره يعيش على هوامش موائد الرأسماليين والبورجوازيين .
وقد ظل هذا الطرف بعيداً عن كل ماكان يجري في الضفة الأخرى ، ومقتنعاً ومنسجماً مع طرحه السياسي المحافظ على الصعيد الوطني والقومي .
وقد انضوت بين صفوفه ـ تماماً كالطرف الأول ـ شرائح اجتماعية مختلفة ، دون أي اعتبار للإنتماء الطبقي .
أما الملفت في هذا المجال هو : اتخاذ طرفي الصراع مواقف تحالفية كردستانية متناقضة ، ومخالفة مع توجهاته ، وقناعاته ، ونهجه .
فكان الطرف المنشق يتباهى ، ويختال بتحالفه مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق ، ويدعي تأييد ومباركة قائد الثورة المرحوم مصطفى البارزاني له .
وظل هذا الطرف يتدفأ بنيران الثورة ، ويرقص طرباً على وقع التصريحات والأقوال الصادرة من قياديين في الثورة الكردية ، أو المفبركة والمصاغة من عناصر في قيادة هذا الطرف بهدف تعزيز موقعه الجماهيري .
مع أن قيادة الثورة لم تؤمن في يوم من الأيام بالنهج الماركسي ـ اللينيني ، ولم تحاول تبنيه ، بالرغم من بقاء المرحوم المصطفى البارزاني في منفاه ، وأكثر من عقد من الزمن ، وبين ظهراني الدولة السوفياتية الشيوعية ، غير أنه بقي محافظاً على نهجه القومي بعيداً عن التعصب ، والإنجرار إلى حمأة الصراعات الإيديلوجية التناحرية في ذلك الوقت .
وقد تمكن الطرف الثالث الذي ظهر على الساحة السياسية في بداية السبعينات من القرن المنصرم من الإحلال محل حزب اليسار في تحالفه مع الحزب الديمقراطي الكردستاني ـ العراق ـ وقيادته ، ساحباً بذلك البساط من تحت رجلي هذا الطرف .
وهو الأمر الذي دفعه ليلقي بنفسه في حضن بعض الفصائل الفلسطينية ، واتخاذه موقعاً آمناً له ، وراح يطلق نعوتاً ومصطلحات مستقاة من قاموس نهجه المستورد ، ويلصقها بالقائد المرحوم البارزاني ، ونهجه ، وثورته في كردستان العراق .
أما الطرف الموسوم ” باليمين ” فقد ظل صادقاً مع حليفه مام ” جلال الطالباني ” ، معلناً من دون خوف ، أو وجل ، أو مواربة تأييده له ، معلناً وباستمرار مصداقية هذا الطرف ” الماركسي ـ الماوي ” ، وحتى في تخندقه مع الأعداء ، وامتشاقه السلاح في وجه الثورة الكردية ، والتطبيل لتلك الإتهامات الصادرة من تلك الأوساط ، ومحاولة تسويقها في الشارع الكردي السوري ، وكاتب هذه السطور كان واحداً من المطبلين ، والمزمرين ، والمهللين لتلك الشعارات ، والمروجين لها ، وبتأثير مباشر من ” الدوغمائية ” الحزبية الشمولية الفاسدة .
وإزاء هذه الحالة المرضية ، انزلقت الأطراف الثلاثة في صراعهم ” الهولوكستي ” الثقافي والفكري إلى مستويات ، أقل مايقال فيها بأنها كانت رخيصة ، ودونية عززت الأحقاد القروية ، والطبائع العشائرية ، وزادتها نظرية ” الصراع الطبقي ” تجذراً وتمدداً ، ومن خلفها الدسائس والمؤامرات الأمنية التي كانت تستهدف أصلاً تسطيح القوى الكردية بمختلف مشاربها وانتماءاتها ، والعمل على استفراغها من مضامينها ، وبالتالي خلق حالة من اليأس القاتل لدى أبناء الشعب الكردي ، وهو الحاصل على أرض الواقع شكلاً ومضموناً .
وفي حمى هذا الصراع العبثي انطلقت ” رحلة ” الإنشقاقات بين مفاصل النخب السياسية الكردية .
وقد عززت ، ووفرت الأجواء والمناخات المناسبة لهذه الرحلة : الفردية ، والأنانية ، والأمية ، والنزعة العشائرية ، والمذهبية الحزبية ، والصراعات العبثية ، والحالة الأمنية وذلك من دون معايير أو ضوابط .
وعلى الرغم من حدوث تغييرات وتبدلات وتحولات جذرية على الصعيد العالمي ، وعلى صعيد المنطقة .
والتي أدت بكثير من الدول ، والقوى السياسية ، والإقتصادية ، والثقافية إلى التقارب ، والتحالف ، والإندماج في ” حالة استقطابية ” مدهشة ، بغرض إثبات نفسها في وجه المتغيرات ، أو الإستحواذ على استحقاقات المرحلة ، باستثناء بعض الدول والأحزاب الشمولية والتي جرفت رياح التغيير بعضها ، وظل بعضها الآخر مصرة على البقاء في قواقعها النتنة ، تمارس فعل الإجرام مع شعوبها ، والشعوب المجاورة لها .
أما الأحزاب الكردية ، فبدلاً من تماهيها مع رياح الديمقراطية ، وتمثل قيمها في الحياة الأسرية ، والإجتماعية ، والسياسية .
ظلت منشغلة بصراعاتها التناحرية ، ومتسرعة في تشكيل أطر سياسية متنافرة ، متباعدة ، مختلفة الرؤى والتوجهات سرعان ماكانت تتبخر حدودها الجليدية أمام شمس الواقع والحقيقة .
وظلت مستمرة على عادتها في إنتاج ” ولادات قيصرية ” وخاصة في العقدين الأخيرين،حتى بلغت حصيلة الولادات في الداخل ست ولادات بالتمام والكمال .
أما في الخارج فقد نمت بثور وثآليل ، وخاصة بعد عام ألفين وثلاثة ، طمعاً في دفقات اوكسيجينية عبر الرياح الأمريكية العاتية ، وعلى أمل إعادة ” سيناريوهات ” مشابهة للحالة العراقية .
لكن وبسبب ضعف في قراءاتها السياسية ، سرعان ماضمرت ، أو يبست ، أو تجمدت في قواقعها بسبب بعدها عن جذورها ، وتربتها ، ومياهها .
إن الصيغ السياسية التي طبقتها القيادات الكردية في سوريا ، والمتمثلة في لجان ” تعاون وتنسيق ” و ” تحالف ” و ” جبهة ” ، وتطرح اليوم صيغ أخرى ، دينية ” كالمرجعية ” ، أوسياسية ” كالمجلس ” ، و ” لجنة تنسيق ” ، هي كلها في حقيقتها إعادة لصيغ قديمة ، و” برتوشات ” تجميلية منمقة ، لايمكن الركون إليها ، مالم نغربل الحالة التنظيمية ، والسياسية ، ونرجع كل شيء إلى الجذور ، ونبحث معاً الخلفية الثقافية والفكرية لهذه التنظيمات ، ومن ثم نبحث آنذاك عن الإطار المناسب لكل تنظيم .
فتجربة العقود السابقة ، قد أثبتت بما لايدع مجالاً للشك ، بأن الخلفية الثقافية والفكرية ، قد تحكمت بالمسارات طوال العقود المنصرمة ، وأوضحت بجلاء السمات المختلفة والمتباينة في الأدبيات السياسية لهذه الأطراف ، وقد كانت هذه الخلفية سبباً من الأسباب الرئيسية في تفجير ” تلك الأطر ” ، أوتقزيمها .
ذلك لانعدام التوافق في الرؤى والمواقف .
إن الطرف اليساري تدرع بالفكر الماركسي ، اللينيني ، الستاليني ، الماوي ، وتلحف بشعارته المجلجلة .
ولكي يكون أكثر انسجاماً مع اطروحاته ، والإيديولوجية التي يؤمن بها ، صعد من وتيرة شعاراته ، ومازال مستمراً في رفع ” سقف ” المطاليب والحقوق .
أما الطرف الآخر ، فقد ظل محافظاً على نهجه الكلاسيكي ، المتسم بالنزعة الواقعية المتمثلة بمقولة : ” السياسة فن ممارسة الممكن ” على حد أقوال أنصاره ، ولم يخرج طوال مسيرته عن إطار المطالبة بالحقوق السياسية ، والثقافية ، والإجتماعية ، متفادياً الشعارات ، والسقوف العالية .
أما الطرف الثالث { البارتي } ، فقد التقى مع التقدمي { اليمين } على الصعيد الوطني في المطالبة بنفس الحقوق ، والمطاليب ، واختلف معه بحدة على الصعيد القومي .
وفي هذا السياق ، وبالتمعن العميق للخلفية الثقافية ، والتربية التنظيمية ، والتطلعات الوطنية لكلا الطرفين ، نتلمس بوضوح ، فيما لو استثنينا العامل القومي ، أن ثمة إطارين اثنين يمكنهما استيعاب هذا الكم المخيف من الأحزاب الكردية في سوريا ، وهما :
ـ مايمكن أن نطلق عليه إطار اشتراكي ، يساري ، ليبرالي : وينضوي في ظله كل الأحزاب ذات الجذور الواحدة ، والخلفية الثقافية المتقاربة ، والتي ولدت بشكل قسري ، منذ أواسط الستينات من القرن المنصرم ، وحتى الآن .
ويمكن أن تجري ضمن الإطار ، عمليات تذويب ، أو صهر ، أو ضم بين هذا الطرف أو ذاك ، للحصول على أقل عدد ممكن من الأحزاب الممثلة لهذا الإتجاه .
ويمكن لهذا الإطار فيما لو تمكن من ترتيب وضعه الداخلي ، وبلورته ، أن يشكل قوة تنظيمية قوية ، تستطيع توفير مناخات ليبرالية ، حداثوية ، تخلص الذهنية الكردية من ثقافة الإستبداد ، والتخلف ، والإتكالية ، والتبعية .
ـ والإطار الثاني : يميني ، محافظ ، اصلاحي : ولاتكمن المشكلة هنا أيضاً في اختيار الاسم ، بل في مدى اغناء وتعميق الفكر الواقعي ضمن إطار ديمقراطي حقيقي ، يستند على ركائز الحرية ، والعدالة ، والمساواة ، وتطبيق البرامج النظرية المستقاة من منظومة القيم الديمقراطية ، وترجمتها على صعيد الفرد ، والأسرة ، والحزب ، والعمل على استقطاب الناس حولها .
وتنضوي في ظله المجموعة الثانية من الأحزاب الكردية التي تتشابه ، وتلتقي في الرؤى والإطروحات ، وخاصة على الصعيد الوطني ، ويمكن لهذا الإطار فيما لو تجاوز ” العامل الكردستاني ” ، ورتب بيته الداخلي بما ينسجم مع الحالة الوطنية كقاسم مشترك أعظمي ، أن يحقق إنجازات مبهرة في مجال تجذير ثقافة الديمقراطية في الواقع الكردي ، واستقطاب تيارات اجتماعية ، وثقافية ، ومالية مهمة ، قد يدفع الواقع الجديد بالأحزاب المنضوية في ظله بإلغاء الحدود الحزبية ، وتحقيق وحدة اندماجية .
واعتقد أن هذه الحالة الإستقطابية ضمن إطارين ، ولكل إطار معالمه الثقافية ، والفكرية الواضحة ، والبعيدة عن محفزات تصادمية ، يمكنها بذلك الإنتقال إلى ” حالة صحية ” ، منسجمة مع المستجدات والمتغييرات ، ومتجاوزة ” التعددية المرضية ” وبالتالي ستتحول إلى عامل جذب واستقطاب قوي للنخب التجارية ، والعلمية ، والفكرية ، والثقافية ، وتحولها إلى رافعة حقيقية ، تنتشل أبناء شعبنا من أنفاق اليأس ، والضياع ، والذوبان !! .
وكذلك ستساهم هذه الحالة في خلق مناخات تجديدية تبعث الإنعاش ، والحيوية ، والحركة بين صفوف الجالية الكردية السورية في المهاجر ، وستقضي بهذا الشكل أو ذاك على تلك البثور والثآليل التي نمت في ظروف خاصة ، وبحجة وجود فراغ في الساحة السياسية الكردية السورية .
وستخلق آلية تنظيمية تتلائم مع الواقع المعاش ، حيث يغلب عليها الطابع المدني ، بعيداً عن ضوابط بين الجالية الكردية ،
إن ” وجهة النظر ” هذه مستخلصة من تجربة حزبية طويلة ، أضمها إلى عشرات ، بل مئات الإجتهادات الأخرى ، والتي تعبر عن مدى عمق المعاناة ، والآلام المبرحة التي يتعرض لها أبناء شعبنا الكردي .
وليس هذا فحسب ، بل علينا أن نعي جيداً ، وبعيداً عن التنظير ، بأن سمات المرحلة المتمثلة بمفاهيم الديمقراطية ، والحرية ، والتعددية يجب ألا تخفي عن أنظارنا الملامح الحادة من الصراع ، والصدام ، والتشابك في المنطقة الموسومة ” بالشرق الأوسط الكبير ” ، في ظل خيمة ” الفوضى الخلاقة ” ، التي لاتزال تتابع سيرها بتؤدة ، وتوحي لمن يملك بصراً وبصيرة ، بأن ثمة مناطق حبلى بعوامل التفجير ، هي في طريقها إلى الدخول في دائرة النار .
.
فإن لم تحسب هذه الأحزاب حسابات الغد ، وما سيحمله هذا الغد من مفاجآت مرعبة ، أقلها ، وفي ظل المتغييرات الدرماتيكية المتوقعة ، إقدام بعضٍ من رعاع العشائر العربية المعبئة والمشبعة بإيديولوجية البعث العنصرية ، والمطعمة بلعاب الطائفية البغيضة ، التي ألبستها إياها الأجهزة الأمنية ، على اكتساح المناطق الكردية ، وتوزيع ” الأنفال ” من بيوت ونساء وذراري ، على ذئاب شرسة فطمت من أثداء ” غولة ” لاتزال تتحكم بمصائر الشعب السوري بالحديد والنار .
21 ـ 10 ـ 2009 ألمانيا ـ إيسن