فضاءات الحوار الكردي العربي، الخلفيات والمآخذ

خالص مسور

لقد شاءت الأقدارأن يكون العرب والكرد، على موعد مع ألمع صفحات من تاريخ بطولي، مليء بالأمجاد والكفاح، تاريخ يروي بافتخار قصة شعبين تآخيا في الله وامتزجت دماءهما بسخاء، فوق كل ذرة من ثرى هذا الوطن المعطاء، فكل نبتة تنمو اليوم في تربة هذا الوطن، نسغها مزيج من الدماء العربية والكردية معاً.

فلقد كان الكرد – على الدوام – وطنيون مخلصون لوطنهم وللأوطان التي يعيشون فيها جنباً إلى جنب، مع اشقائهم العرب سواء في سورية أو العراق، لا بل، أسهم الكرد – وعلى مر التاريخ- في الدفاع – ليس عن الدين الإسلامي فحسب – بل، عن البلاد العربية وشعوبها بجدارة واقتدار.
فالأكراد من سماتهم الإخلاص والمودة لمن يمدون لهم يد الصداقة والأخوة، طبعاً ليس هذا كلام قصص ومجاملات، بل التاريخ خير شاهد على ما نذهب إليه ونقوله.

فمنذ البداية يذكرنا التاريخ ببطولات ومآثر القائد الإسلامي الكردي الشهير صلاح الدين الأيوبي، الذي استبسل في الدفاع عن ديار العرب والمسلمين، محققاً بذلك مأثرة كبرى في تاريخ الشعبين الشقيقين بل الأمة الإسلامية كلها، حينما تكللت جهوده في تحرير القدس الشريف من أيدي الفرنجة الغاصبين وسلمها لأهلها العرب لايبغي من ورائه منة ولا شكورا، وسلم مفاتيح كنيسة القيامة للمسيحيين العرب، ثم تابع مسيرته الجهادية فلم ينزل من على صهوة جواده قط، إلى أن وافته المنية فملأت قلبه الحسرة والأسى، لأنه لم يمتد به العمر لطرد الغزاة نهائياً من ديار العرب والمسلمين.

ولهذا واعتماداً على هذه الأخوة التاريخية والتاريخ النضالي المجيد، يتوجب على العرب أن ينظروا إلى أخوتهم الكرد نظرة ندية، والكف عن تجاهل وجودهم وحقوقهم القومية إلى جانبهم، فلهم حقوق شعب وواجبات الأخوة، وكما قال الإستاذ منذر الموصلي مرة: (للأكراد على العرب يد سلفت ودين مستحق).


وفي استعراض بسيط للتاريخ نرى أن الخطاب السياسي العربي، ومن حيث موقفه من الشعوب الآخرى، قد مر بثلاثة مراحل مختلفة، بدءاً من عهد الرسول (ص) ومن مقولاته: الناس سواسية كأسنان المشط، لافضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وسلمان منا من آل البيت،رغم ظهور بعض النعرات العصبية لدى بعض المحيطين بالرسول) آنذاك،  والذين حاولوا إيذاء سلمان الفارسي الممثل هنا للآخر أو القومية الأخرى، ولكن المحاولة قبرت في مهدعا ومن أساسها ولم تلق يومها استجابة من أحد.

ثم ازدادت العنصرية شراسة في العصر الأموي، فأصبح الأموين ينعتون الآخرين بالموالي، وهم المسلمون من غير العرب، وقد خف الأمر قليلاً في أيام الدولة العباسية، ألا أنه عاد إلى الظهور مجدداً على أيدي القسم الأعظم من القوميين العرب الحاليين، الذين تأثروا بنوع من الأفكار وماركات قومية مستوردة، فأدخلوا إلى البلاد العربية قومية مقلوبة، تقف على رأسها لا على رجليها، وتحت شعارات من قبيل، الأمة العربية الواحدة، والرسالة الخالدة.

وباعتقادي أن هؤلاء من القوميين العرب، أساؤا إلى تلك الرسالة الخالدة، والتي هي الحضارة الإسلامية والتاريخ العربي، وعلى القومية العربية معاً، حينما كموا  – باسمها- أفواه شعوبهم، وتنكروا لحقوق الشعوب المتآخية تاريخياً وعقائدياً مع الشعب العربي، فكانوا- والحال هذه- يتصفون بضبابية الرؤيا السياسية، ولايطيقون رؤية الآخر المختلف عنهم في القومية، ولن يجيدون التعامل، أو إجراء شكل من أشكال ثقافة الحوار معه، مما ادى بهم إلى أنكار وجود تلك الشعوب إلى جانبهم تماماً.

وهذا مايدل على عنصرية من نوع (الفلاش باك) والخطف خلفاً بلغة النقد الادبي الحديث، أي عنصرية ذاتية استعلائية جوفاء، تتكيء على إرث ماض تاريخي تولى وحاضر وجودي متقزم.

ولكن وفي السنوات الأخيرة بدأت ملامح التغيير تواكب نوعاً ما، نظرة القوميين العرب إلى الشعب الكردي بشكل خاص، ولكن ليست إلا بعد تضحيات طويلة، أراقها الكرد على مذبح شهوة الإنكار والإنتقام غير المبررين، حتى صار القوميون العرب اليوم يرون الأكراد من بعيد، ولكن بعيون حاسرة فيها البكثيرمن التوجس، والريبة، والحذر.

ولهذا أرى عاجلاً وليس آجلاً، ضرورة التقارب بين القوميتين، وترسيخ أسس من الصداقة الحميمة، وبدء الحوار بين المثقفين الكرد والعرب تحت سقف وطن واحد موحد، واللجوء دوماً إلى ثقافة الحوار، ونبذ المفاهيم الذهنية المتكلسة، والأفكار المسبقة الصنع والتصميم عن الآخر المختلف، ومواكبة النزعة التحديثية ورفع سوية التعامل الحضاري مع الكرد، حتى يتسنى للمثقفين العرب الإطلاع على القضية الكردية العادلة، وليتضامنوا معها في المحافل والأوساط الثقافية والشعبية والرسمية العربية كذلك، كما يتطلب من الميقفين الكرد – وقبل غيرهم- ترجمة التراث والثقافة الكردية إلى اللغة العربية، حتى يتم التعرف على ثقافة الكرد وتاريخهم، ونضالهم، ومعيشتهم، وإسلوب حياتهم، وطموحاتهم السياسية التي ناضلوا من اجلها قروناً طوالاً، ولكنهم – مع الأسف- لم يستطيعوا تحرير أنفسهم من الغبن والحيف الذي لحق بهم، نظراً لكثرة من كانوا يعادونهم من تحالفات حكام المنطقة تحت تسميات مختلفة، مرة تحت اسم المتمردين، وأخرى تحت اسم الإنفصاليين أو الإرهابيين.

وليعلم الأخوة العرب وغير العرب بأن الأكراد ليسوا أعداء لأحد بل بالعكس، فهم كانوا – على الدوام- جنوداً أشداء أوفياء، دافعوا عن أنفسهم، كما دافعوا عن الآخرين وعن أوطانهم بتفان، وتجرد، وإخلاص.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…