أردوغان – بيريز، مفاجآت تحتاج إلى تفسير –

بقلم: أحمد زكريا

بين الدهشة، والمفاجأة، والإعجاب، تباينت ردود أفعال من تابع الهجوم العنيف، الذي شنه رئيس الوزراء التركي على رئيس إسرائيل، في جلسة النقاش، بقاعة المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، يوم الخميس 29/1/2009، فقد كانت المواجهة اللفظية عنيفة من جانب أردوغان في مواجهة بيريز، الأمر الذي يضع المتابع للحدث في حيرة من الأمر، فالمثل الشعبي المصري يقول (أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب!)، فتركيا وإسرائيل ترتبطان بعلاقات اقتصادية وعسكرية، ذات طبيعة خاصة منذ عدة عقود، ولم تهتز تلك العلاقات بأي صورة، فعلى الرغم من مهاجمة أردوغان (لفظياً) لإسرائيل عام 2002، عقب تشكيل حزبه للحكومةً، وتعهده بإلغاء الحكومة التركية للاتفاق العسكري بين تركيا واسرائيل، والقائم منذ عام 1996،
وذلك تعبيراً عن إدانة “العدالة والتنمية” للهجمة البربرية الإسرائيلية على الضفة الغربية، (30/3/2002 حتى 14/4/2002)، مخلفة ما يقدره البعض بستمائة شهيد فلسطيني، فيما عُرِفَ بمجزرة جنين، آنذاك، إلا أن أردوغان لم يضع هذا التعهد موضع التنفيذ، بل على العكس زادت حجم الصفقات العسكرية، وحدها دون الاقتصادية، بين الطرفين، إلى ثمانية مليارات دولار خلال الأعوام الخمسة التالية لذلك التعهد، كما أبرمت تركيا، وبتوقيع أردوغان نفسه، صفقة مشتروات أسلحة لصالح تركيا، من إسرائيل، بقيمة 160 مليون دولار، بضعة أيام قبل الهجوم الإسرائيلي على غزة في 27/12/2008، ولم يقم أيضاً أردوغان بإلغاء تلك الصفقة، أو حتى التلويح بذلك، كترجمة عملية لاحتجاجاته اللفظية على السلوك الهمجي الاسرائيلي، بحق المدنيين في غزة مطلع العام الحالي 2009، بل أن أردوغان وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده مباشرةً، عقب مغادرته ندوة دافوس غاضباً، أكد على أن غضبه ليس من بيريز، وإنما من “الرجل” الذي كان يدير الندوة، يقصد الصحفي “ديفيد ايجناثيوس”، حيث اعتبر أردوغان أن مضيفه (خرج عن المعايير الدولية لإدارة الحوار بين الضيوف، فأراد انهاء الاجتماع دون أن يعطي الكلمة للمشاركين فيه بما فيهم أنا شخصياً)، كما أردف في إجابته على سؤال آخر (إن ردة فعلي هنا موجهة إلى الرجل الذي أدار اللقاء)، وحين وصل إلى بلاده عائداً من دافوس، في نفس الليلة، أعلن أمام الحشود من مستقبليه (فيما يتعلق بالعلاقات التركية الإسرائيلية لا نريد اتخاذ قرارات مدفوعة بغضبٍ عابر، نريد بناء قرارات على أسس دقيقة، لقد أوضحت مراراً أن كلماتنا القوية ليست موجهة إلى شعب إسرائيل، وليست ضد الشعب اليهودي، ولكنها موجهة كلياً تجاه حكومة إسرائيل)، هذه الكلمات مجتمعة إنما تظهر حرص أردوغان على عدم تعكير العلاقات التركية الإسرائيلية على المستوى العملي، إنما تشير إلى رغبة أدوغان إبقاء حدود المشادة عند مستوى المشاحنة الشخصية الكلامية، التي لا ترقى لتعكير العلاقات الاقتصادية والعسكرية بين الطرفين، ويشار هنا إلى أنه وفي نفس اليوم الذي حدثت فيه المشادة، يوم الخميس 29/1/2009، ذكرت صحيفة “جمهورية” التركية الواسعة الانتشار في تركيا، أن إسرائيل جمدت إتمام صفقة طائرات التجسس المتطورة (هيرون)، بسبب مواقف الأتراك من إسرائيل على خلفية حربها الأخيرة على غزة، إلا أن وزير الدفاع التركي وجدى جونول نفى ذلك، كما تأكد نفي الإسرائيليين لتوقف الصفقة، عبر مصادر عسكرية بجيش الدفاع الإسرائيلي، وفقاً لما أوردته جريدة الشرق الأوسط، بعددها الصادر بتاريخ 31/1/2009، ويذكر أن تلك الصفقة عقدت بين تركيا وإسرائيل بقيمة 182 مليون دولار، لتوريد إسرائيل لعشر طائرات هيرون، للعمل ضد مواقع حزب العمال الكوردستاني، بتوجيه وإدارة من البعثة العسكرية الإسرائيلية في “باطمان”، تم تسليم اثنين منهم فعلاً إلى الجيش التركي.

كما أعلن المتحدث باسم الجيش الجنرال “متين غوراك” يوم الجمعة 30/1/2009، أن “مصالح تركيا الوطنية يجب أن تكون لها الأولوية (على الموقف من القضية الفلسطينية)، لاسيما وأن تركيا تستخدم تجهيزات وعتاداً عسكرياً إسرائيلياً في محاربة حزب العمال الكردستاني، فضلاً عن أن حجم التبادل التجاري بينها وبين إسرائيل وصل في العام الماضي إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار”، ومن نافلة القول الإشارة إلى أن الجنرال “إلكر باشبوغ” الذي تسلم مهام منصبه كرئيس هيئة أركان الجيش التركي في 4أغسطس/ آب 2008، كان قد سبق له زيارة حائط المبكى في يونيو/ حزيران 2008، ليس بوصفه يهودياً تركياً فحسب، وإنما لإظهار مدى تعاطفه مع الدولة الإسرائيلية، شهرين قبل تولي منصبه الجديد سالف الذكر، بما يعني طمأنة الإسرائيليين بأن رجلأ على توافق مع الدولة العبرية سيتولى قيادة الجيش التركي، الأمر الذي يشير إلى عوامل ضغط داخل الجيش التركي تؤثر لصالح إسرائيل.
 ما الأمر إذن؟ هل نحن بصدد ظاهرة صوتية جديدة، ولكن بلغةٍ تركية، تضاف إلى الظواهر الصوتية العربية التي مللنا منها، فأضحت لا تغني وتسمن من جوع؟
لاشك أن جزءاً من الأمر يتعلق بالمشاعر الإنسانية المؤلمة التي شعر بها أردوغان تجاه الأبرياء الذين سالت دماؤهم في غزة، بفعل أصدقائه الإسرائيليين، فتحتم عليه عتابهم.

ولكن في عالم السياسية، لا مكان للمشاعر الإنسانية، وحدها، فهناك أصوات الناخبين الكورد والترك، التي يستهدف أردوغان، وحزبه، استقطابها من الأحزاب القومية التي يدعمها الجيش التركي، ومن “حزب العمال الكوردستاني” المتحالف مع “حزب المجتمع الديمقراطي” في انتخابات المحليات التركية المزمع عقدها في مارس/ آذار 2009، وهناك أيضاً الثأر الشخصي من رفض إسرائيل لاقتراح أردوغان بأن تنزل قواته على الحدود بين مصر وغزة، لممارسة مهام أمنية لصالح إسرائيل، تكون “مسمار جحا” لوجود عسكري تركي، ومن ثم سياسي، في قلب مشكلة الشرق الأوسط، مما يزيد الدور التركي في المنطقة، ليتوازن مع نمو الوجود الإيراني فيها، وهناك أيضاً انفعال شخصي من أردوغان ضد هجوم بيريز عليه شخصياً في ندوة دافوس، وهناك إحساس بالمهانة الشخصية أصاب أردوغان، حين أوقفه أصدقاؤه الإسرائيليون على حاجز أمني بالضفة الغربية لمدة ساعتين، إبان زيارته لرام الله وإسرائيل أثناء الحرب الأخيرة على غزة.

إضافةً إلى ذلك فإن توثيق أردوغان لعلاقاته مع إسرائيل، منذ توليه للحكم في تركيا، وحتى الآن، لم يشفع له عند الاتحاد الأوروبي ليرضى عنه، ويقبل ضم تركيا إلى الاتحاد، فآثر أردوغان، أن يظهر للأوروبيين أن بمقدوره قلب الطاولة، والانقلاب على إسرائيل، إذا استمروا في موقفهم برفض ضم تركيا للاتحاد الأوروبي، علَّهم يستجيبون لمطلبه.
في عالم السياسة الاشتباكات الكلامية لا تسفر عن تغييرات عملية على أرض الواقع، إن لم تنتقل إلى سياسات فعلية، وإجراءات عملية، فالكلام يكون رده كلام.

حين هاجم بيريز المتحدثين قبله في ندوة دافوس، إنما كان يرد على الهجوم الكلامي من جانبهم، حيث تحدثوا قبله، كما قصد الرد على أردوغان الذي هاجم إسرائيل طوال الشهر السابق على المنتدى، مندداً بجرائمها ضد المدنيين.

وأردوغان كرجل سياسي يجيد عمله يعي ذلك بعمق، ولذلك توقف عند حدود الكلام، فانضم إلى الظواهر الصوتية في المنطقة.

وما توقف أردوغان عند حد الأداء اللفظي، إلا كالممسك بالعصا من المنتصف، يريد تحقيق كل الأهداف دون الدخول في تحديات فعلية.

فهذا الموقف من أردوغان، يظل موقفاً شخصياً من (شخص أردوغان) ضد إسرائيل، وليس من رئيس وزراء تركيا.

فإذا كان أردوغان يريد بموقفه الانحياز إلى ضحايا غزة، وحقوق الشعب الفلسطيني، فعليه أن يحسم أمره ويرتقي بموقفه إلى مستوى الأفعال.

على تركيا (الدولة) أن تتخذ موقفاً واضحاً، إن كان توجه أردوغان توجهاً سياسياً حقيقياً، وليس ضغوطاً كلامية، وثاراتٍ شخصية فحسب، فلديه خيارات متعددة تبدأ في حدها الأقصى بقطع كافة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية العسكرية مع إسرائيل، وطرد بعثتها العسكرية التي تدير حرباً ضد “العمال الكوردستاني” من مدينة “باطمان” التركية، وانتهاءً بمجرد تجميد العلاقات الاقتصادية مع الدولة العبرية، وعلى (الطيب) أردوغان ألا ينسى أن يتصالح مع مواطني الدولة التركية من الأكراد، فبدلاً من مناصبتهم العداء واستخدام الآلة العسكرية التركية ضدهم، فليوقف ما يرتكبه الجيش التركي ضدهم من “جرائم حرب ضد الإنسانية” بما تستخدمه قواته من أسلحةٍ محرمةٍ دولياً، كالقنابل العنقودية والفوسفورية المستوردة من أصدقائه الإسرائيليين، عليه أن يتعاطف إنسانياً مع الكورد في تركيا، كما يتعاطف إنسانياً مع الفلسطينيين في غزة، كي تكتسب منازلاته ضد الإسرائيليين مصداقية أمام شعبه، وأمام العرب، وأمام العالم أجمع، وتؤتي ثماراً حقيقية.

فلا شك أن حل الحكومة التركية لمشاكلها مع الأكراد حلاً سلمياً عبر التفاوض المنفتح، يدفع الوضع الداخلي في تركيا نحو استقرار حقيقي، يُمَكـِّن تركيا من إدراة تحديات سياساتها الخارجية من منطلق أكثر قوة وتماسكاً.
 وأخيراً لي سؤالان احترت فيهما كثيراً، الأول منهما هو: ما الفرق بين موقف كلٍ من الحكومتين القطرية والمصرية (على مابينهما من خلافاتٍ كلامية أيضاً) والموقف التركي من إسرائيل إبان عدوانها الأخير على غزة؟ والسؤال الثاني: ترى لو كان لتركياً حدوداً جغرافية مع غزة، هل كان موقف تركيا العملي ليختلف كثيراً عن الموقف العملي للإدارة المصرية تجاه أهالي غزة، إبان الهجمة الصهيونية؟ سؤالان لن تجيب عنهما أقوال أردوغان، بل أفعال الحكومة التركية حيال الكيان الإسرائيلي.
القاهرة في 31/1/2009

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…