محكمة أمن الدولة بين المتهم والمتهم

  الدكتور عبد الحكيم بشار

إذا اتخذت السلطات السورية قراراً في مرحلة زمنية معينة ونتيجة لظروف ومعطيات محددة ، فإن أي تغيير لتلك المعطيات والظروف لن يؤدي إلى تغيير تلك القرارات بل تستعمل بشكل جامد وبعيد عن المنطق والعقل ، فإحدى القرارات المتعلقة بالحركة الوطنية الكردية كمصطلح حينما كان الدكتاتور صدام حسين يتسلط على رقاب الشعب العراقي (ايام حكمه) هو استعمال كلمة المعارضة العراقية بدلاً من المعارضة الكردية ، وقد استعمل هذا المصطلح بعيداً عن المنطق وتحكيم العقل حتى ولو ببساطته ، لذلك احتوت الجرائد الرسمية السورية في إحدى أعدادها حينما كانت العلاقات السورية التركية متوترة على عنوان عريض : (المعارضة العراقية في البرلمان التركي) إن استعمل تلك الجملة من قبل أكثر من جريدة رسمية سورية للتعبيٍر عن مدلول المعارضة الكردية في البرلمان التركي يدل على مدى تقيد الجهات المنفذة بالتوجيهات العليا حرفياً دون استعمال أي درجة ولو ببساطة من العقل والمنطق
وهذا الشيء ينطبق أيضاً على محكمة أمن الدولة ، فالتهمة الجاهزة الموجهة ضد معظم المعتقلين الكرد هي (اقتطاع جزء من سوريا وإلحاقه بدولة أجنبية) والمقصود بدولة أجنبية هنا هو تركيا ، وقد وضعت الأسس الأولى لهذه التهمة حينما كانت العلاقات السورية التركية متوترة جداً ، وكان احتمال نشوب حرب بين الطرفين ممكناً في اية لحظة ، وكان سبب هذا التوتر يعود إلى :
1- قضية لواء الاسكندرون السليب: حيث لم تكن سوريا تعترف بضم تركيا للواء الاسكندرون ، وبموجب اتفاقية مع فرنسا ، وكانت تطالب بحقها في استعادتها ، بينما تركيا كانت ترفض ذلك .
2- خلافات حدودية في عدة مناطق أخرى والاعتقاد بوجود مطامع تركية في بعض الأراضي السورية .
3- عدم التزام تركيا بالمواثيق والمعاهدات الدولية في ما يخص حصة سوريا من مياه نهري دجلة والفرات .
والآن تحولت تركيا من دولة عدوة إلى دولة صديقة بفضل شطارة السياسة السورية ؟! (وبغض النظر عن حل تلك الملفات العالقة) والتي تحتاج إلى بحث خاص ، وباتت العلاقات بين تركيا وسوريا تتجه نحو شراكة واسعة في العديد من القضايا الاقتصادية والسياسية والأمنية بشكل خاص ، وبعد أن كان الحديث عن استعادة اللواء السليب يعتبر نضالاً ، قد يعتبر الآن تهمة تحاكم وتعاقب من أجلها ، إذاً هناك تغيرات عميقة في العلاقات  السورية التركية الرسمية باتجاه ترسيخ المزيد من التعاون والتنسيق ، ونحن إذا تجاوزنا الموقف الكردي الذي لا يدعو لتقسيم سوريا بل يبدي رغبة حقيقية في العيش المشترك مع مختلف مكونات الشعب السوري وعدم وجود اية تنظيمات سياسية كردية تطالب سراً أو علناً بتقسيم سوريا ناهيكم عن أن جغرافيا الوضع الكردي في سوريا ووجوده في ثلاثة مناطق غير مرتبطة جغرافياً داخل سوريا  الجزيرة – كوباني – عفرين) والتي تؤدي إلى استحالة تقسيم سوريا ضمن هذه المعطيات إذا تجاوزنا كل هذه الاعتبارات الكردية ، أليس من واجب السلطة السورية وخاصة محكمة أمن الدولة الوقوف على الواقع الجديد ، واقع تطور العلاقات بين سوريا وتركيا من علاقة عداوة إلى علاقة صداقة ، فهل بموجب هذا الواقع الجديد يمكن لتركيا أن تقبل بأن يسعى أكراد سوريا إلى اقتطاع جزء من سوريا وضمه إلى دولة أجنبية (تركيا) حسب المعطيات فإننا امام احتمالين :
1- إن تركيا سترفض رفضاً قاطعاً اقتطاع أي جزء من سوريا وضمه إلى تركيا ، وهذا يستدعي مراجعة هذه التهمة من قبل محكمة أمن الدولة وإسقاطها بشكل نهائي من مفرداتها واتهاماتها الموجهة ضد الشعب الكرد ي .
2- إن تركيا ستقبل بضم أراضي سورية جديدة مقتطعة من قبل الكرد كما تدعي محكمة أمن الدولة ، وهذا يتطلب من السلطات السورية مراجعة شاملة وعميقة لسياساتها مع تركيا واعتبار إن لتركيا مطامع حقيقية في الأراضي السورية وهذا يسقط حق التعاون بمختلف أشكاله السياسية والاقتصادية والأمنية مع الدولة التركية.
إذاً نحن أمام متناقضين : السياسة الرسمية السورية واتهامات محكمة أمن الدولة ، ويجب على إحداها إعادة النظر في أجندتها وتغييرها بحيث يحصل انسجام بين الموقف الرسمي السوري وبين اتهامات محكمة أمن الدولة.

22/5/2009

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…