الموت الأخير للشعب في حدث قامشلو الأخير

 ابراهيم محمود
يقولونها في الكردية ” عين اليقين أم علم اليقين ؟ “، تأكيداً على صحة الخبر/ الواقعة، والبداهة تقرّر صواب ” عين اليقين “، وما شاهدناه في حدث قامشلو المهيب والرهيب معاً بين ” 20-22 نيسان 2016 ” كان في عِدَاد عين اليقين، على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي. وأنا أتحدث هنا بصفتي متابعاً ومشاهداً كغيري لما كان يجري، عما أفصح عنه هذا الحدث المؤلم والمؤكّد لواقعة أن لا قيمة للشعب باعتباره المرجَع فيما يجري في اعتبارات الذين يقرّرون مصيره. فليس هو الذي فجَّر الحدث، ليس هو الذي أحال المدينة خلال ساعات معدودات إلى ” زلزلت الأرض زلزالها ” والناس يعيشون مخاوف السنين الخمس المنصرمة وأكثر، كما لو أن الذي جرى أبَان عن أن الذي كان يُشدَّد عليه شرق قامشلو وغربها، شمالها وجنوبها، وهو أنها محميَّة كان أكبر من كونها خدعة، لكل الذين يدّعون تمثيله كرداً وغير كرد.
حدث قامشلو الأليم أفصح عن أن كل ما كان ينسَب إلى الشعب مخاتلة والتفاف عليه بغية تدجينه وتعليبه وتقليبه على ” قفاه “، وهو، وإن كان يُرى في المسماة بـ” المسيرات الجماهيرية ” لا علاقة له بكل ذلك، فالشعب مفهوم اجتماعي، مدني، له سلطته المعتبَرة، أما تلك، فاختزال للشعب وتقطيع فيه وتبضيع فيه، وتسويقه نحو ” المطبخ ” السياسي، أو ” المسلخ ” الحرباسي.
لا فائدة من سؤال: من الذي ” أشعلها؟ إنما هو السؤال: ماذا أريد من كل ذلك؟ ثمة من يساومون على الشعب بكامله، ودونما استثناء. وإذا أردت الحديث عن الكرد وكونهم شعباً، فيسهل ربطه بأي شعب آخر في الجوار، وهو الإيحاء التجييشي على أنه مصدر كل سلطة.. ولكن، يكفي أن يتجول أحدنا في شوارع قامشلو، وكيفية تقطيعها، ليتبين له كيف يكون التقطيع تقطيعاً لهذا الشعب بالذات، كيف يكبَس في بيته ومحلَّته وزابوقه ومطبخه وفي غرفة نومه، حيث يسهل اعتقاله بالجملة، أو تطويقه بما هو شعاراتي، ودائماً باسم الوطن الكردي وشهدائه، وحمايته من الأعداء… ونحن نعلم أن ثمة من يتحدثون الكردية ولا صلة لهم البتة بالكردوارية، ثمة كان من يهتف باسم الكرد والكردايتي، وحتى الأمس القريب كان الخصم اللدود لها، ثمة من يتفقه في شأن الكردية، وقبل الحدث السوري الكبير، كان في وضع مغاير.
كما لو أن هؤلاء الذين كانوا يتنقلون داخل الأحياء الشعبية الكردية، وعلى أسطح البنايات، ويزخّون الرصاص، وأكثر من الرصاص، دونما اعتبار لمن هم في البيوت من أطفال ارتعبوا مما يسمعون، والنساء المرعوبات على أطفالهن جرّاء تجارب مريرة لم تنقطع، والآباء الذين لا حول لهم ولا قوة إزاء الجاري، كما لو أن هؤلاء يدفعون بالناس في هذا الاتجاه أو ذاك، يخرجونهم من بيوتهم، أو يبقونهم في بيوتهم، أو منحصرين في محلاتهم، ويطلقون العنان لأهواء رصاصهم، لميولهم الاستعراضية ودائماً باسم الكردايتي، ويحيلون كل رقعة وبقعة إلى ساحة حرب، وليس على أطراف المدينة، في نطاق تصفية الحسابات، وكل طرف يجيّش طرفه: شعبه اللاشعب، جماعته، طائفته، مجموعته، تحت وابل من الشعارات التي يراد منها رفع الرصيد الكردايتي، كما لو أن هؤلاء لا أهل لهم، أو أنهم جرّاء تدريب مكثَّف، نافسوا أعداءهم في تجريدهم من كل صفة أهلية، ورسموا حدوده عبر امتداد فوَّهة المدفع، أو سبطانة السلاح، أو أزيز الرصاص، في مسرحيات واقعية.
لكم هو رخيص هذا الشعب الذي لم يكن يوماً محل اعتبار في أي قرار يعنيه في العمق ” وهل من حدث يُسمَّى دون أن يحمَّل بدمغة منه ؟ “، لكم هو رخيص حين يُستدعى جزئياً أو أكثر منه إلى هذه الجهة أو تلك، ويعبَّأ بما يقصيه عما يشده إلى الحياة المطلوبة منه، لكم هو رخيص حين يساق أو يقاد تبعاً لرغبة ” فوقية ” من ” الأمام ” أو ” الخلف “، وحين يمثَّل فيه، وتنتزَع منه أو عنه كل  خاصية حياة، سوية أو شبه سوية، لكم هو رخيص حين يقضى عليه بالجملة، ليتاجَر باسمه في نطاق ” جينوسايدي”.
لكم تأكَّد لي في حدث قامشلو الأخير كيف يموت الشعب ميتته الأخيرة، ميتة كردية، لأن الآخرين عاشوا ميتاتهم بدورهم، فالذين كانوا يتشتتون ويهربون من هذه الزاوية أو تلك، يلوذون بهذه الجهة أو تلك، ناحية هذا الحي أو ذاك، صوب عاموده، أو القرى المتناثرة، تاركين بيوتهم تحت رحمة مسلحين لهم أهواؤهم، ونهْب المصادفات وحساب الربح والخسارة من قبل الذين دخلوا في مساومات وخرجوا من مساومات.. حرب استغرقت المدينة، ومدينة استغرقت في رعبها، ورعب استغرق في اسمه مبنى ومعنى بالكامل، حرب انفجرت بغتة، وهي لم تكن بغتة، وتوقفت بغتة، تاركة جثثها هنا وهناك، وجرحاها هنا وهناك، والمصابين في أرواحهم ونفوسهم وذاكراتهم بالألوف وخرابات بيوت ومحلات وأمكنة وغيرها، كما لو أن شيئاً لم يحدث، وفي المحصّلة ينبري هذا الفريق أو ذاك على أنه المنتصر..دونما سؤال عن إزهاق أرواح من مضوا وانقضوا، من أصيبوا في أجسادهم وأرواحهم، من صُدِموا بما يجري، والخسائر النازلة في الأهلين وتكاليف الرعب المبثوث، فالذين أشعلوها وأشرفوا على نارها، وزعموا أنهم أخمدوها لتتم مكافأتهم، وإعلان أبطال الحدث لم يطرحوا على أنفسهم سؤال الدائر وتبعاته استخفافاً بكل هذا الدائر، أما الشعب فليس سوى ” خردة ” الزمان والمكان..
كم يلزمنا من الوقت لنسمع ممن يدّعون تمثيلنا أنهم أنفسهم مخدوعون كثيراً برتبهم وأسلحتهم وشعاراتهم؟
كم يلزمنا من الوعي، وعي كل شيء، لنشعر أننا نحن الكرد كرد، نحن الكرد شعب، نحن الشعب بحاجة إلى الحد الأدنى من الاعتراف به، وعدم الاستهتار باسمه وماضيه وموقعه وما يوقَّع باسمه زيفاً، على مذبح ” زعمائه ” ؟!
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   إن حملة وحماة القومية النيرة والمبنية على المفاهيم الحضارية والتنويرية لا يمكن أن يكونوا دعاة إلغاء الآخر أو كراهيته. على العكس، فإن القومية المتناغمة مع مبادئ التنوير تتجسد في احترام التنوع والتعددية، وفي تبني سياسات تعزز حقوق الإنسان والمساواة. ما أشرت (هذا المقال هو بمثابة حوار ورد على ما أورده القارئ الكريم ‘سجاد تقي كاظم’ من…

لوركا بيراني   صرخة مسؤولية في لحظة فارقة. تمر منطقتنا بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة يختلط فيها الألم الإنساني بالعجز الجماعي عن توفير حلول حقيقية لمعاناة النازحين والمهجرين قسراً من مناطقهم، وخاصة أهلنا الكورد الذين ذاقوا مرارة النزوح لمرات عدة منذ كارثة عفرين عام 2018 وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت مناطق تل رفعت والشهباء والشيخ مقصود وغيرها. إن ما يجري…

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…