صادق جلال العظم: الذي كان ذات يوم أستاذي الجامعي

ابراهيم محمود
بين تاريخين ” 1934-2016 ” تتحدد حياة أستاذي في جامعة دمشق” الدكتور صادق جلال العظم” ذات يوم في الفلسفة الحديثة. نعم، في يوم 13- 12/ 2016، كانت إطلالة نظرته المنجرحة، يعني أنه تعدَّى محتوى بيت الشاعر الجاهلي:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش    ثمانين حـــــولاً لا أبالك يسأم ِ 
أنا على يقين تام، أن صاحب “نقد الفكر الديني-  النقد الذاتي بعد الهزيمة- الفلسفة الغربية الحديثة- في الحب والحب العذري- دفاعاً عن المادية والتاريخ- ذهنية التحريم…الخ “، وهو مائدة فكرية تتضمن تنويعاً من المغذيات ذات المرجعية الفلسفية اعتباراً، لم يعرف السأم، كما عرفتُه ذات يوم، وهو بزيّه الأبعد ما يكون عن ” العظمة ” المعتادة لدى كثيرين ممن يعتبرون أنفسهم من الأعيان، كما لو أن روح الفلسفة ” هذّبت ” روحه الأعيانية، وإن كان في أسلوب كتابته، وطريقة تعامله روحاً ناطقاً بتلك الأرستقراطية الخاصة في الكتابة، لعلها روح المغامرة البحثية، والإقدام على قول ما لم يقَل بعد، كما عهدناه في الجامعة، عبر أسلوب منشّط للفكر يتعلق بـ” الفكر السياسي المعاصر “، في أواسط سبعينيات القرن الماضي، مقارنة بآخرين، ولقد ألفنا تلقي الدرس الجامعي إجمالاً على أيدي أكاديميين مأخوذين بحرارة الفكر والبحث الفلسسفيين، وهم مختلفون عن بعضهم بعضاً: عادل العوّا، العظم، طيب تيزيني، نايف بلوز، بديع الكسم، حامد خليل، بكري علاء الدين… 
وربما أفصحوا في قائمة أسمائهم، عما سمّيته في أمكنة أخرى عن نهاية مرحلة ثقافية كانت موعودة بالعطاء، لكنها أُحكمِت بالإغلاق والأفول لأسباب معرَّف بها من الواقع السياسي السلطوي في البلد، وليكون المسموع في الرواق الأكاديمي باثاً فعله، أو ناشراً تأثيره خارجاً، أبعد من حدود سوريا بالذات، كما يعلم بذلك من هم مسكونون بحرفية الثقافة والهاجس الفلسفي ضمناً: في بيروت قبل غيرها، سوى أن العظم، ربما كما هو ” العظم ” أصلب عوداً ونفاذ عائد في ذلك.
العظم، والذي كتبت عنه قبل عقود من الزمن، كان يجمع بين جنبيه جملة من ” الأهواء ” الثقافية، وما فيها من تأثير في تسخين جليد الروح في ظلماء الواقع الصقيعية: هوى التمرد على ما هو قائم، وبطريقته، وهوى التعبير عن وضع تاريخي، ديني، سياسي، فكري، كان في وسعه أكثر من غيره تناول ذلك، إن روعيت فيه خاصية الانتماء العائلية والتي يستحيل وضْعها جانباً ” من آل العظم لذين يرجعون في تاريخهم المأثور إلى ثلاثة قرون من الزمن “، وهوى الحضور في أمكنة مختلفة، كما لو أن نسبه يتقدمه، ويمهّد له الطريق أكثر من سواه، مهما قيل ويقال في رصيده الثقافي: الفلسفي من ثراء فلسفي وبأكثر من لغة، ليكون مثقف الاختلاف بأكثر من معنى، حتى في أسلوب تعامله مع السلطة في سوريا، في العقد الأخير من القرن العشرين، ومسألة” الأسبوع الفلسفي في جامعة دمشق “، وليكون الملحوظ والبارز تالياً في موقع المعارضة للنظام في سوريا على وقع انفجار الحدث السوري، وأن الذي يحاول إقامة صلات وصل بين عناوين كتبه، ربما يستعصي عليه الوصل وبيسر، استناداً إلى التباعد بين محتوى عنوان وآخر، لكنه فيما قام به، كان يعرّف بنفسه سليل أولئك الفلاسفة الذين يقبِلون على إحالة كل الموضوعات الشائكة إلى ” ورشتهم ” الفلسفية، اعترافاً بسلطة روح الفلسفة، بإرادة القول الفلسفي. وما أثاره من زوابع تصلح لأن تناقش من جهات شتى، ولكل زوبعة مكانها وزمانها ولسان حالها، وجبهتها، وجنودها، وشهودها وصحائفها: نقد الفكر الديني ” على وقع هزيمة الخامس من حزيران 1967 “، وكذلك ” النقد الذاتي بعد الهزيمة ” حيث مطرقته النيتشوية” وإن لم ” يؤمن ” برؤية نيتشه القياماتية ” ينزل بها من عليائها الفلسفية على هامات من حاولوا تبرير سلبيات الواقع، و” ذهنية التحريم “، الكتاب الذي يكمّل من ناحية تلبد مناخات زمن ظهور” نقد الفكر الديني “، ومن ناحية أخرى، مثّل الكتاب حِداداً ساخراً على الأنظمة العربية التي عجزت، كمضمونها، عن تحقيق ما وعدت به جماهيرها من تغيير في الأوضاع، ومن تلبَّسوا بلوثاتها كتاباً ومثقفين وخلافهم، و” دفاعاً عن المادية والتاريخ ” الكتاب الذي سعى فيه إلى إعادة الاعتبار لتاريخ سياسي انهارَ بمفهومه العقائدي ” على خلفية انهيار نظام الاتحاد السوفيتي، ومقطورته القطبية والتحالفية التي شملت أمصاراً وأقطاراً، والتأكيد لمن انتشى بهذا ” السقوط ” من ذوي الفكر المتشدد والدعوي ونظرائه، على أن منطق التاريخ هو منطق الحقيقة التي تسمّي أمماً وشعوباً.
العظم، كان معلّمي ذات يوم، وهو يوم يمتد في الحاضر والمستقبل، كآخرين، مهما كان الموقف من طرق تفكيرهم، كان أستاذي الجامعي ذات يوم، ليبقى ماثلاً أمام ناظري، كلما رأيتني وأنا أستدعي ما كنته ذات يوم: طالباً، فخريج قسم الفلسفة: جامعة دمشق، ومتابعاً لما هو فلسفي وغيره، والعظم في موقعه الاعتباري، ومعترفاً بحقيقة مركّبة فحواها: ليس المهم أن تكون مع أو ضد، وإنما أن تدرك أن وراء ما تقرأه، ولمن تتفاعل معه، ما هو واسع المدى، إنسانيّ القيم، ما هو نظير المائدة البارعة التكوين، خلابته، وقد تحلّق حولها أهلوها، ولعل العظم من بينهم، ولعلّي أسمعه، وهو يقول ما ينشره في أثر متنقل، وباسم كتاب اوقيانوسي: دفاعاً عن الحياة والناس دون استثناء .
وما سطّرته هو توقير لهذه اللحظة ” العظمية ” التي تستغرق تاريخاً لا يحاط به، وهو موزّع بين المكتوب والشفاهة، ومن باب الوفاء لروح الفلسفة المشعة أبداً !
دهوك، في 14- 12/ 2016 .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…

بوتان زيباري   في قلب المتغيرات العنيفة التي تعصف بجسد المنطقة، تبرز إيران ككيان يتأرجح بين ذروة النفوذ وحافة الانهيار. فبعد هجمات السابع من أكتوبر، التي مثلت زلزالًا سياسيًا أعاد تشكيل خريطة التحالفات والصراعات، وجدت طهران نفسها في موقف المفترس الذي تحول إلى فريسة. لقد كانت إيران، منذ اندلاع الربيع العربي في 2011، تُحكم قبضتها على خيوط اللعبة الإقليمية،…