جان كورد
معلوم أن مجمل استراتيجيات حزب العمال الكوردستاني قد انقلبت ب 180 درجة لمجرّد اختطاف واعتقال رئيسه السيد عبد الله اوجلان أثناء الفترة الأولى من تصاعد فكرة “نظام العالم الجديد” مقابل انهيار المعسكر الشيوعي الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي، وفي العادة عندما تفشل قيادة ما في تحليلاتها وخططها وبرامجها واستراتيجيتها فإنها تتعرض لتغييرات عميقة في البنية التنظيمية وتشتد صيحات “المحاسبة” للمسؤولين عما حدث، إلاّ أن حزب العمال، الذي تأثر بعمق بسياسات وأساليب وتركيبة حزب البعث العربي الاشتراكي أثناء تواجد زعيمه في ظل نظام الأسد (الأب)، هو الحزب الذي ازدادت شعبية رئيسه بصورة مغايرة ل” موجبات التغيير ” في التنظيمات السياسية، ولم يتأثر هذا الحزب تنظيمياً بالانعطاف الفكري الشامل الذي بدأ السيد أوجالان برسمه من جديد، في إطار الممكن الذي استجد بحكم تواجده في أيدي الترك، بعد أن سرح ومرح لعقدين من الزمن ودخل مع الدولة التركية الطورانية في حربٍ ضروس سنواتٍ عديدة.
ولم يتقدّم أحد من قيادة حزبه بطلب “محاسبة القائد” أو بالاستقالة أو بأي اعتراف أمام الشعب الكوردي يصرّ ح فيه للعلن أن حزبه كان مخطئاً في سياساته وأنه يتنازل عن منصبه للجيل الذي يليه في المسؤولية. والسبب الوحيد في ذلك هو أن السيد أوجالان كان رئيس المؤسسة ومديرها دون شريك أو منافس أو نائبٍ، فكان قد عمل في مختلف المراحل على تصفية “الشخص الثاني” في الحزب.
وفي هذه الظروف التي ارتسمت في المنطقة، ظروف التحولات العظيمة على الساحتين الاقتصادية والسياسية التي أنجبها انهيار السوفييت وسقوط نظام البعث الصدامي في العراق في عام 2003، ظهر جلياً أن حزب العمال لن يتمكن من الاستمرار في الزعم بأنه القوة القائدة في المجتمع الكوردستاني، وأضطر للتأكيد على دعوته من أجل إقامة “مجلس وطني كوردستاني” تابع له، وهذا هو الذي استدعى تأسيس أحزابٍ مماثلة لتنظيمه الستاليني في الأجزاء الأربعة لكوردستان، لتغيير نسبة الفوز بالمناصب الأهم في المجلس من خلال “كثرة الأحزاب التابعة” وبهدف اقناع الطورانيين بأن السيد أوجالان قد تخلى كلياً عن حلم إقامة أي دولة قومية كوردية، فالمجلس لا يسعى إلى إقامة أي دولة، مقابل الإبقاء عليه حياً، فتأسس في الشمال (HDP)، في الشرق (PIJAK)، في الجنوب (PÇDK)، وفي الغرب من كوردستان (PYD)، ومعلوم أن شقيق الرئيس أوجالان قد اعترف عدة مرات بأنه هو الذي أسس حزب الاتحاد الديموقراطي في سوريا (PYD)، في حين أن رفاقه الآبوجيين قد قاموا بتصفية أهم الشخصيات الكوردية السورية في الحزب جسدياً ومنهم كمال شاهين، والقائد الميداني حفتارو، كما قاموا بقتل العديد من المقاتلين الكورد السوريين بالجملة ورمي جثامينهم في نهر الزاب الأعلى بأمر من (جميل بايق) بالذات، ثم إعلانهم “شهداء الحزب” فيما بعد للتمويه على الجريمة النكراء ضد الإنسانية.
وهذه التصفيات العلنية والسرية، مقابل التأكيد المتواصل على التبعية المطلقة للرئيس، مهما غيّر من استراتيجية الحزب لتتناسب مع ظروفه الشخصية، قد دفع بالعديد من كوادر الحزب إلى التخلي عنه، والقائمة طويلة بأسماء الذين أعلنوا أنهم لم يعد في مقدورهم قبول ما يجري على حساب المصالح العليا للأمة الكوردية.
في شمال كوردستان، على الرغم من أن الحزب الوليد على الساحة الكوردية (هادب) قد حقق انتصاراً برلمانياً مؤخراً بحدود 10 % – 13 % في انتخابين متتاليين، إلاّ أن هذه النسبة تكون أقل من نسبة النواب الكورد الذين دخلوا البرلمان عن طريق قائمة حزب السلطة في أنقره، حزب العدالة والتنمية، وأن هذه النسبة التي تم تحقيقها لا تتناسب البتة مع الحجم السكاني للمواطنين الكورد في تركيا، الذي يزيد عن 20% من مجموع السكان، ولربما أكثر. وقد تكون هناك تبريرات معقولة لعدم تمكنه من تحقيق نتائج أفضل، إلاّ أن ما جرى ويجري منذ فوز الحزب لا يصب في صالح حزب العمال الكوردستاني أبداً، وبخاصة اندلاع الحرب من جديد، وعدم استطاعة الحزب التأكيد على نفسه كتكتل مستقل عن تنظيمات الحزب الأم، وهذا ما استغله الطورانيون لإعلان الحرب النفسية والسياسية عليه بهدف تدميره أو ابعاده عن العمل البرلماني نهائياً، فلو كان الحزب الأم (العمالي) قوياً في الساحة الكوردية لتمكن من تحريك الشارعين الكوردي والتركي من دون الانجرار إلى الحرب التي لا تكافؤ ولا تناسب للقوى فيها.
في شرق كوردستان، اندلع القتال قبل عدة سنوات تحت راية حزب العمال وصورة رئيسه و برداء وقناع لحزب بيجاك ورئيسه المطرود سابقاً من الحزب الديموقراطي الكوردستاني – إيران، السيد حاجي أحمدي، إلا أن إيران تمكنت من ممارسة الضغط على قيادة حزب العمال في جبل قنديل (في اقصى الشمال من جنوب كوردستان) عن طريق حلفاء الحزب في الإقليم، فتوقف القتال فجأة من دون أي تبرير مقنع ومن دون أن يتمكن حزب العمال من كسب الشارع الكوردي هناك، الذي لا يزال يعتبر الديموقراطي الكوردستاني طليعته المناضلة وهو (حزب الأمناء العامين الشهداء منذ تأسيسه على أيدي الرئيس الشهيد القاضي محمد في عام 1945)، حيث اغتال الإيرانيون سليمان معيني، ومن بعده الدكتور عبد الرحمن قاسملو، ومن ثم الدكتور شرف قندي…
أما في جنوب كوردستان، فلقد أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية في الإقليم بأن (حزب الحل الديموقراطي الكوردستاني) الأوجلاني لم يحقق لحزبه الأم أي انتصار برلماني، بل بدا وكأن الجماهير الكوردية لا تكترث به ابداً، ولذا فإن حزب العمال يعطي أهمية بليغة لمساهمته المشكورة في الدفاع عن شعبنا الكوردي “اليزيدي” في شتكال (سنجار) وأطرافها، وفي مساعدة أهلنا هناك أثناء الهجوم المباغت لتنظيم الدولة (داعش) الإرهابي على المنطقة، بل إنه يتمادى في سعيه من أجل الإعلان عن المنطقة كياناً قائماً بذاته، لا علاقة له بكوردستان والكورد، وهذا ليس إلا لجعل موضوع شنكال ورقة ضغط على قيادة الإقليم، كي تقبل حزب العمال كشريك لها في سلطة كوردستان، واعتبار قواته “الكريلا” قوةً فتالية مستقلة من خارج إطار تنظيمات البيشمركة، في حين أنه يرفض تلك الاستقلالية لبيشمركة روزآفا (جيش الشمس – له شكرى روز) ويصر على شرط قبول تلك القوة الكوردية السورية بأن تخضع لقيادة (قوات الحماية الشعبية – YPG) وهذا ما لا يشترطه الحزب بالنسبة لقوى العشائر العربية والمسيحية المتحالفة معه تحت مسمى (قوات سوريا الديموقراطية).
وفي غرب كوردستان، يبدو أن الصراع مرير، بين “سلطة الأمر الواقع” التي يمارسها “حزب الاتحاد الديموقراطي” في غياب الحركة الوطنية الكوردية، وبين الأحزاب الكوردية المنضوية تحت اسم “المجلس الوطني الكوردي – ENKS) التي دخلت بعد ترقب وانتظار وحوارات طويلة الأمد في “إئتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية” الذي يرأسه الآن الأستاذ أنس العبده، الذي زار مؤخراً إقليم جنوب كوردستان والتقى بالسيد الرئيس مسعود البارزاني، وزار مخيمات لجوء السوريين هناك، وطلب رسمياً باسم الائتلاف بعودة بيشمركة روزافا إلى سوريا للمساهمة في تحرير الشمال السوري من التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها تنظيم الدولة (داعش) الذي يتراجع في العديد من المواقع ويخسر الأرض السورية من تحت قدميه، في حين أن حزب الاتحاد الديموقراطي يرفض عودة الشباب الكوردي إلى مواطنه ويهددهم بالحرب عليهم.
إن هجرة مئات الألوف من الكورد، رغم وجود “دويلة ديموقراطية!!!” في غرب كوردستان وعدم رضاء الشعب الكوردي عن ممارسات ما كان يسمى ب”إدارة الكانتونات” والأسايش (قوات الأمن) ومسؤولي حزب الاتحاد الديموقراطي، والتشكيك بأهدافه المعلنة، وارتمائه في أحضان الحلف الإيراني – السوري، وخاصة على مستوى التنسيق القتالي والتضافر الميداني، وانتهاجه سياسة خاطئة في كل المجالات، لا تختلف عن سياسة حزب البعث حيال كل ما كوردي ومعارض، قد جعل شعبية حزب العمال تهبط باستمرار بين الشعب الكوردي، وبقدر ما تقوى الحركة الوطنية الكوردية وتزداد التحاما, بالحراك الوطني – الديموقراطي السوري، يخسر حزب العمال يوماً بعد يوم الأرض سياسياً من تحت قدميه، كما في أجزاء كوردستان الأخرى. وهذا ما يشعر به قادة حزب الاتحاد الديموقراطي على الرغم من تعاظم قواه القتالية واتساع نطاق حملاته الميدانية، إذ أن غالبية الكورد واثقة من أن سقوط نظام الأسد وهو بالتأكيد لم يعد بعيداً، سيؤدي إلى سقوط حر لحلفائه وأنصاره وعملائه وشبيحته أيضاً. والكورد مقتنعون بأن موقعهم النضالي إلى جانب السوريين الرافضين للاستبداد والتمييز وليس إلى جانب نظامٍ حوّل البلاد إلى مستنقعٍ آسن مليءٍ بدم الشهداء.
والشعوب عندما تلفظ زعيماً أو حزباً أو سلطةً ما، فلا أحد يستطيع إرغامهما مهما كانت قوة بطشه شديدة على التراجع عن قرار الكفاح من أجل حريتها. ولذا فإن سلطة الأمر الواقع لن تتمكن من لجم خيل المناضلين في سبيل تحرير شعبهم من الاستبداد والدكتاتورية والاستفراد بمصيرهم.
12 حزيران، 2016