د. محمود عباس
4- المطلوب من النخبة
مستقبل ضبابي أمام شعوب الشرق، لا يقل قتامة من حاضرنا البائس، يتبدى من خلال انحدارنا المتسارع نحو الضياع الثقافي والسياسي والاقتصادي، وهيمنة مفاهيم المذاهب الإسلامية السياسية، والشرائح الانتهازية، وتلاعب القوى الكبرى بهذه المنظمات ودعمهم للسلطات الاستبدادية. لذا يتطلب جهداً ضخما مكثفا، من القوى الثورية الكامنة بين هذه الشعوب، وخاصة من النخبة في الحركة الثقافية، والتي يتطلب منها العمل على تنقية الصور النمطية السلبية والبشعة عن البعض، والمتراكمة على مدى القرون الماضية، أو التي نمتها السلطات الاستبدادية. وهي بلا شك مسيرة صعبة، وتحتاج إلى عمل دؤوب ووقت طويل، فالتراكمات هائلة، والمتأثرون بها تتجاوز العامة، بينهم شريحة واسعة من المثقفين والسياسيين، والكتاب، والإعلاميين، وغيرهم.
والنخبة هي الشريحة التي يجب أن تبدأ من ذاتها، وتنطلق من الاعتذار عن الأخطاء التي خلفتها الأنظمة العربية الاستبدادية، وتقبل منطق اللوم، والبحث عن الحلول التي يمكن أن تجعل العربي يتقبل الكردي كشعب صاحب أرضه التي يعيش عليها. وعلى المثقفين العرب بشكل خاص، التحرر من منطق التحليل المذيل بكلمة (لكن) ويضعوا ذاتهم في الجانب الأخر، عند البحث عن وفي العلة. وبالتأكيد الشعوب المغلوبة على أمرها تملك القابلية الأفضل والأسرع على التغيير، أكثر بكثير من العرب الذين تعودوا على السيادة والهيمنة، إذا وجدت جدية في التغيير في الطرف الآخر، ولاحظت بأنها تقدم الحلول المنطقية، وتغير في تعاملها ومفاهيمها، وعلى النخبة العربية أن تعترف بأن الأنظمة العربية، ملأت كتب التاريخ بصفحات مزيفة ومشوهة، وغيرت في حوادث، منذ بدايات الإسلام، وأزاحوا عن الساحة تاريخ جميع الشعوب التي استعمرتها تحت الغطاء الإسلامي، وفرضت عليهم التاريخ العروبي.
الكرد هنا يأملون بأن يتمكن العرب أو الأنظمة والحركة الثقافية العربية من العمل على خلق البديل لدى الكردي عن صورتهم النمطية المتكونة في لا شعوره، وذلك من خلال قبول التنوع الثقافي، والتعامل السياسي بالمثل، وتوزيع الخيرات الاقتصادية بعدالة، وعدم عرض نتائج مسبقة عن أبحاثهم حول القضية الكردية، ويقصد منها حتى أولئك الذين يؤيدون مطالب الحركة الكردية، ويقرون بواقعية حقوقهم، لكنهم في النهاية يلصقونها بحجة، فتصبح مشوهة وناقصة، أو تظل تحت الهيمنة العربية. والأمثلة عديدة في هذا، من بيانات المعارضة السورية، حول حقوق الكرد في سوريا القادمة، وآخرها التقرير الصادر عن مؤتمر لندن حول سوريا القادمة وحقوق الشعب الكردي فيها، إلى تصريحات الشخصيات العربية التي تعرض ذاتها على طاولات الوطنية، ومواقف أغلبية المعارضة السورية الافتراضية، إلى كتب وأبحاث تبنتها المراكز الاستراتيجية في الدول الإقليمية، ومقالات العديد من كتابهم، وسياسييهم، ونحن إجمالا هنا نتحدث عن الواقع السوري ولا تعني أن الدول الإقليمية الأخرى بأفضل منهم، و مقالة الدكتور (حازم نهار) خير مثال، وتعكس رؤية شريحة واسعة من الذين ذكرناهم، وذلك في تحليله وحكمه لطرح الكرد عن الفيدرالية واللامركزية في سوريا (الرقة بين الفيدرالية الكردية والإرهاب الداعشي) بتاريخ 28/5/2016م، عارضا حجة تتناقض والتحليل، ليخرج بنتيجة لا تقل عن مواقف حزب البعث والسلطات الإقليمية المعادية للكرد، ذاكرا في البداية أن تاريخ سوريا السياسي تخلوا من الوطنية باستثناء مرحلة لا تتعدى أربع سنوات وتنتهي في عام 1958م، وهي المرحلة التي لدينا فيها رؤية مغايرة، فهي لا تقل انزلاقا قوميا من المراحل السابقة واللاحقة. فيرى الدكتور بأن سوريا منذ تكوينها وحتى اللحظة لم تتذوق طعم الديمقراطية، ولا تعرف من الحيز الوطني شيئاً، ولا تدرك ما تنتجه الحكومات الوطنية، لذلك يطلب، أو يرى بأن المطالبة ببناء سوريا القادمة على الحيز الوطني ستكون نتائجها للشعبين العربي والكردي ولكل أطياف النسيج السوري، افضل من النظام الفيدرالي، أي يطلب أن نشترك لبناء سلطة وطنية، ويتناسى هنا حقيقة ساطعة، وهي أن جميع الأحزاب والقوى التي تسيطر على الساحة، وفي الجانبين المعارضة أو السلطة، والتي ستكون الأغلبية المطلقة في الحكومات القادمة وعند كتابة دستور سوريا القادمة، بعيدة كل البعد عن المفاهيم الوطنية، وهي أحزاب وقوى غارقة في التطرفين: القومي العربي؛ والتعصب الديني، فالادعاء لوحده لا تخلق الوطنية، ولا تضع البنية الملائمة للنهوض عليها، ولا نعلم ما هي حجته بأنها ستؤدي إلى تكوين نظام وطني، وسيتقبل العربي القومي أو المسلم العروبي أو حتى المسلم الرافض للقوميات، بناء سوريا على البعد الوطني وسيقبلون الكردي مشاركا لهم في الدستور والنظام والاقتصاد والثقافة، وستكون اللغة الكردية على سوية اللغة العربية في منطقته، وسيعترفون بأن جنوب غربي كردستان هي جزء ضمن سوريا والكرد يسكنون أرضهم التاريخية لكن الظروف تفرض علينا العيش المشترك ضمن سوريا كوطن! وأن الصورة النمطية للكردي: الانفصالي؛ والذي ليس له تاريخ ولا ثقافة؛ ولا لغة متطورة! ستزول أو تضمحل من اللاشعور العربي.
إنه مطلب طوباي أنحاز إليه السيد الدكتور حازم نهار، رغم ثقافته، وغزارة التراكم المعرفي عنده عن الكردي بعكس أغلبية المثقفين العرب، لكنه مع ذلك لم يتمكن من التحرر من هيمنة الصورة النمطية المترسخة في لا شعوره مسبقاً، ولربما منذ السنوات الدراسية الأولى، والتي نمت فيما بعد تحت تأثيرات ما، وهي صورة الكرد الانفصاليين، علماً أنه يتبين ومن خلال البحث وفي عمقه ليس ضد النظام الفيدرالي، لكن بما أن الطرح يخرج من الكردي الموجود في صورته الذهنية المسبقة، فهي ستكون حتما مخططات تعني مقدمة لتطبيق الحركة الانفصالية. وعلى الأغلب لولا هذه الصورة النمطية المتكونة تحت تأثير إملاءات التاريخ والمعرفة العربية المطلقة وحقد الأنظمة على الكرد، والتي شكلت الكردي الانفصالي، لما انتهت الدراسة عند الدكتور بهذه النتيجة، وعلى الأغلب لتماشى مع المطلب الفيدرالي كأحد أفضل الحلول لسوريا القادمة والتي ستحفظ حقوق جميع أطراف النسيج السوري ضمن نظام اتحادي لا مركزي، وستلغى تحتها عوامل الاستبداد. لا شك هناك شريحة غير قليلة، من المثقفين العرب أمثال الدكتور، يتوقع منهم، حين التخلص من صورهم النمطية وتأثيراتها بإحداث تغيير بنيوي في المجتمع العربي، وقد يتقبلون الكردي كشعب له الحق في تقرير مصيره ضمن الدولة الوطنية.
والنخبة العربية هذه، أمام سؤال مصيري، إما التخاذل؛ والمزيد من المآسي والمعاناة، أو التحرك لتنقية وعي المجتمع؛ وإنقاذه، وكما ذكرنا سابقاً فالخلاص يبدأ من تغيير الذات، كالتحكم في الشعور، وتنقية ما تراكم في لا شعورها من الماضي عن الكرد، والتي لا تزال لها تأثيرات على مفاهيمها وطروحاتها، وإن ظلت مسيطرة عليها وعلى تصريحاتها، فتعاملها مع الكردي سيظل مشوهاً، وهذا بدوره سيؤثر على الصورة النمطية الجمعية عند أغلبية الحركة الثقافية والسياسية العربية، وفي الشارع العربي.
فمثلما هي مهمة النخبة العربية مضاعفة أمام المجتمع، وتحتاج إلى عمل دؤوب غير سهل، كذلك هناك متطلبات تفرض ذاتها على النخبة الكردية. وقد يسأل البعض وماذا عن المجتمع الكردي؟ لا شك صورته النمطية والمؤثرة على تعامله لا تختلف، لكنها في معظمها وكما ذكرناها آنفاً، نتاج رد فعل عكسي، دفاع عن الذات، على خلفيات التعامل العروبي وسلطاته، والتي بدأ بها العرب من الماضي، أثناء تصاعد منطق الموالي والسيادة، إلى أن تدرجت الأن ضمن مخططات الإلغاء الكلي لوجوده، وعلى الأغلب ستضمحل عند الكرد وقد تزول جراء ذاتها، عندما تبدأ النخبة العربية بالتأثير على الشارع العربي وتعمل على تكوين سلطات وطنية ديمقراطية تقبل الكردي كطرف متساو.
لا بد للنخبة من الانتباه إلى أن التراكمات المعرفية المشوهة هذه والتمسك بها، ونشرها في الشارع العربي، وبدعم من الأنظمة الاستبدادية والحركة المثقفة، والسياسية كالمعارضة السورية الافتراضية، المنحازة عروبيا، فإن محاولات خلق حوار إيجابي بين الكرد والعرب، سيظل وهماً، ومعظمها ستفشل وهي في مهدها، واستمرارية النخبة العربية، والمنظمات الأخرى، بمفاهيمها هذه، ومنطقها الجاري في حل قضية الصراع العربي الكردي، وبالأساليب الحالية ستؤدي إلى تفاقم تلك الأوبئة، وسيستمر المجتمع العربي قبل الشعوب الأخرى غارقاً بالعيوب والأوبئة الفكرية، والمآسي والمعاناة الثقافية قبل السياسية. وهو ما سنبحثه في الفصل التالي (عيوب الحوار العربي الكردي خلال الفترات الماضية).
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
8/7/2016م
نشرت في جريدة بينوسا نو العدد(51) الناطقة باسم الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.