سايكس–بيكو في جنيف (ما أشبه البارحة باليوم) 2/1

د. محمود عباس
تعيد سايكس-بيكو نفسها؛ لكن في وقت غير ذلك الوقت وبلباس ليس لباس ذلك الزمن؛ إلا أن أداء الدور هو نفسه لم يتغير، بالرغم من تغير شخصياتها. حينها، استعان الشريف حسين بن علي، شريف مكة، بالبريطانيين لطرد أخيه المسلم الذي صانه ومقدساته على مدى أربعة قرون، ظنا منه ومن أولاده أن هؤلاء سينصبونهم ملوكا على العرب؛ بيد أن من استعانوا بهم، لم يحفلوا بمن خانوا أخاهم، فأهملوهم، ولم يقدموا لهم سوى الفضلات، وفي النهاية أقاموا على الشريف نفسه، شريف السنة والعروبة، الوهابية ليتخلى عن مكة وعن شرافته لها وينهزم في ساحة الاقتتال شر هزيمة.
لم تشذ عائلة أسد عن عائلة شريف مكة في الاستعانة بالغرباء على أبناء وطنهم معتقدين بانتصارهم تقتيلا على هؤلاء المساكين سيتربعون، أعزاء مكرمين، على عرش سوريا في أعين الجميع، لاسيما في أعين من أعانوهم على القتل والدمار في سوريا وبأبنائها؛ وأعاد التاريخ نفسه ليمتثل رأس العائلة ذليلا لدى وزير الدفاع الروسي وعلى أرض سوريا التي كان يجول فيها جولة الآمر الناهي، ولم يرتقِ، بعدما أحل بسوريا ما أحل، إلا إلى مرتبة الخادم المهين، والعبد المطيع، ولا يستغرب أن يقيم عليه مستعانوه أردوغان مشابها لما حصل مع شريف مكة، فالتاريخ في وقتنا هذا يعيد نفسه.
 استعانة بشار بالأجانب على أبناء وطنه لم يكن مستبعدا، فتاريخه الطائفي من عهد المغول إلى الصليبيين ومن ثم الفرنسيين إلى الملالي ووصولا إلى الروس ماض زاخر بالطعن بالمسلمين السنة أنّى واتتهم الفرصة. ولولا العروبية لما آمن عرب السنة بهم، وآفة عرب السنة هي العروبية، وتاريخ هذا الفيلق ليس مشرفا أيضا، فناصرهم ناصر إسرائيل على سيناء والضفة الغربية وغزة وعلى رأسها جميعا القدس الشريف ومهد السيد المسيح عليه السلام وكنيسة القيامة. إذا كانت الآفة مكتفية بالعروبية لكانت المصيبة أهون، لكنّا تجرعنا معاناتنا بضياع ما ضاع، كان الأولى بسنة العرب الممثلة في المعارضة الافتراضية، أن تحذو حذو بشار الطائفي في الاستعانة بالغرباء، بل أبدت وطنيتها وأصالتها الأثيلة فاستعانت بأبناء جلدتها من السنة لتدحر بشار ومستعانيه، فكانت كالمستجير بالرمضاء من النار. لم يكن أبناء جلدتها خيرا من بشار ومسانديه، فأخطأت هذه المرة أيضا؛ لأن هؤلاء الأبناء قد ثخن جلدهم وغلظ من كثرة ما داست عليها الغرباء عندما استعانوا بهم ليردوا بعضهم بعضا، وحالتهم هذه مستمرة منذ خروج العثمانيين وإلى اللحظة، فتحولوا خلال مسيرتهم في الاستعانة بالغرباء إلى مدارج ومنصات للمستعانين. ومن مذلتهم يقلدون هؤلاء الغرباء؛ على ألا يفرق بينهم سوى لون البشرة واللسان، إذا استثنينا اللباس القومي لكل منهما، لو كان بإمكانهم تغيير ما تبقى لهم من سماتهم لفعلوا، ولكن الخالق لم يجعل لمخلوقاته تبديل ألوان بشرتهم.
لنعد إلى سايكس-بيكو من جديد؛ فمثلما تم تجزئة وتوزيع أملاك الرجل المريض في اتفاقية سايكس-بيكو، وبغياب أصحاب الأرض، تتكرر الحالة في أروقة جنيف، والقوى المعنية بها، تنتظر القرارات، لتنفذها في الواقع العملي، وتصرح على الإعلام بأنها تشارك في النقاش. ومن الأهمية ذكره، أنه ليس فقط القوى السورية المتصارعة غائبة عن محادثات توزيع المصالح في المنطقة، بل والإقليمية. هنا أين إيران الجبارة وتركيا مدللة ناتو، وخليج البترول، كل هذا ليس شيء سوى أن دول شرق أوسطنا لا تزال تعيش أيام سايكس-بيكو رغم مرور قرن من الزمن. طيلة هذه المدة لم ترقَ واحدة منها إلى مصاف أصغر دولة أوربية معتبرة، لكسمبورغ مثالا، لا حصرا.
ومن غرائب السذاجة التي تظهر على مواقف المعارضة السورية الافتراضية، وعلى مقياس سلطة بشار الأسد، أنها لا تعلم ما يتم في الخفاء ضمن قاعات جنيف، وإن كانت تدرك فهي مصيبة، وما يزيد الطين بلة أنها مقصية في جنيف وإقصائية في سوريا، بدلا من أن تلم أشلاء سوريا، فهي الأخرى تنهج نفس النهج مع أطراف النسيج السوري غير العروبي – السني، فأقصت الشعوب والأديان السورية الأخرى في وثائقها ومقترحاتها المقدمة لروسيا وأمريكا، بدلا إجراء الحوار عليها مسبقاً من قبل الجميع، كوثيقة  لندن المقترحة من قبل الهيئة العليا للمفاوضات بتاريخ (7/9/2016م) وبحضور وزراء خارجية الدول الصديقة لسوريا، تناست أنها بهذا الفعل اللاوطني، واللاحضاري، في بعض البنود الواردة في الوثيقة،  تدرج ذاتها ضمن خانة العداء مع بقية الأطراف السورية الأخرى، بعدما كان العداء بينها وبين سلطة بشار الأسد، بهذا التصرف بدت نسخة أسدية في التعامل مع النسيج السوري، ويكفي لسوريا وللعالم، أن بشار بسلطته الطائفية أغرق نفسه وطائفته والمجتمع السوري في بحر من الدماء. والمدهش تقليد المعارضة الافتراضية، لبشار وأساليبه تضع ذاتها في خانة العداوة مع السوريين؛ ويرى المواطن السوري أنه ينتقل من هيمنة الطائفة العلوية إلى الطائفة التكفيرية الراديكالية من السنة، وهي في هذا الموقع الضعيف كمعارضة لا بد أن تنفض من حولها معظم القوى المساندة لها، فما بالنا لو استلمت السلطة! ولا شك أنها تدرك أن التاريخ لن يرحم، ولا نعني التاريخ الجاري، البالغ إلى حد القرف، بل التاريخ الذي سيسجله الشعوب السورية في الحيز الوطني، عندما تعود إليها عافيتها…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
12/9/2016م
 
  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…