د. محمود عباس
العنوان حمالة الأوجه، فيها من السلبيات بقدر ما يؤمل الفرد من الإيجابيات المحتملة على عتباتها، فالبدء بكلمة العيوب تعكس الحقيقة، التاريخية والسياسية، المسيطرة على مسيرة علاقاتهما، والمهيمنة عليها الأنظمة العروبية الاستبدادية. وعادل من حيث غاية الطرح؛ وما وراء الكلمة، والهادفة إلى تجاوز الماضي المأزوم، وخلق حوار ما، وجاد بينهما، على أمل بناء مجتمع خال من الحقد والكراهية تجاه الأخر، وتكوين أوطان تستند إلى الحيز الديمقراطي الصحيح، يشترك الشعبين فيه، للعيش ضمنه بعدالة ومساواة.
ولنقترب من الواقعية، وإعطاء العنوان ركيزة فكرية أعمق، لا بد من تبيانه وتسليط الأضواء على مساراته، وأية حوارات جرت، ويجب البحث فيها؟ الثقافية؛ أم السياسية؛ أم المذهبية، والأخيرة منفية، بشكله العام، في عمقه الديني، لأن الطرفين بالعودة إلى الماضي البعيد، يلتقيان في الإسلام، بشكل عام، رغم وجود أديان أخرى بين الكرد، لكنهم كانوا ولا يزالون مهمشون، وقد تجاوز التعامل معهم حيز النبذ، فهيمنت المجازر بدل حوارات الأديان.
والسياسية لا وجود لها بين الشعبين، وما حصل لم تبلغ منطق الحوار، ولها خلفية سنبحث فيها لاحقاً. والثقافية أعدمت منذ البدايات، مع قدوم العرب المسلمون إلى المنطقة، وفرض ثقافتهم، تحت غطاء المفاهيم الإسلامية. وعليه فلم تبقى على طاولة البحث في هذه القضية إلا الحوارات التي فرضتها الأنظمة العربية الحديثة العهد على الكرد، وحسب مخططاتها، وبدون إرادة كردية. ولتبيان هذه المسيرة لابد من العودة إلى تاريخ العلاقات البعيدة بينهما، وإلا فإن العنوان سيستخدم لتوسيع هوة الخلافات، وسيظل في مجمله غير دقيق، وعلى الأغلب سيفهم منه بأنه معروض للتلاعب بالحقائق المؤلمة عن العلاقات العربية الكردية، ونقلها إلى مجرد عيوب ثانوية بسيطة، ومن السهل تصحيحها. كما وأن السرد والتحليل المنطقي، لمسيرة تلك العلاقات المطعونة في مصداقيتها، قد تساعدنا لنستخلص من ركام السلبيات، طفرات إيجابية، نبني عليها الأمل لبناء مستقبل أفضل على حطام الماضي المأزوم.
فبناءً على صفحات التاريخ تتبين بأنه لم تحصل (حوارات) بين هيئتين سياسيتين أو ثقافيتين متعادلتين في الحقوق والواجبات، أو سلطتين، أو شريحتين متساويتين، وما حدث لم تتجاوز الإملاءات، وفرض الهيمنة العروبية على مصير الشعب الكردي، ولم تخلى يوما من فرض الشروط أو في أفضل حالاته دراسة مقترحات سمحت للطرف الكردي بعرضه، وبالتالي لا يمكن أضفاء شروط الحوار على ما حصل ضمن الاجتماعات بينهم، ويمكن تسميتها ما نشاء، إلا الحوارات.
ولنبدأ، في هذا البعد، من أعماق التاريخ، وبدايات التلاقي بين الكرد والعرب، أي منذ الغزوات الإسلامية العربية الأولى، عندما وضعت السلطات القادمة من شبه الجزيرة العربية، حَجرُ إلهي مقدس على ما جرى بينهم من لقاءات، تحت غطاء عدالة الأمة الإسلامية التي لا تخطأ!
الغزوات الأولى كانت بدايات التلاقي بين الشعبين، فوق جغرافية الكرد، التي حملت منها ومن بعض الجغرافيات المجاورة لها، القبائل العربية الجاهلية ثروات هائلة وسبايا شبعت بل وأغنت القبائل العربية وعلى راسهم قريشييهم، لتبنى عليها العنجهية الجاهلية العروبية، المغطاة بالعباءة الإسلامية.
تفاقمت مع الزمن نهب الكرد، ودمرت حيزهم الثقافي والمادي والتي كانت تنعم بالحضارة حينها، وللعلم فإن القبائل العربية الإسلامية جمعت تلك الغنائم، ليس على مبدأ الجزية، بل على مبدأ قانون الغزو المعروفة بين القبائل العربية الجاهلية قبل الإسلام، عندما كانت قوانين الغزو والسبي والنهب والقتل من سماتها الرئيسية. وبلا شك، ومع سيطرة العرب على السلطات، والقدرة على التحكم بكتابة التاريخ، غيبت هذه الحقائق ونسخت مكانها مفاهيم الفتوحات والجزية، والتي في عمقها السياسي ليست سوى استعمار ونهب للثروات، ولا تزال مستمرة على الأوطان التي استعمرتها تحت عباءة الإسلام، إلى أن بلغ بالسلطات العروبية اليوم ومعهم شريحة واسعة من المجتمع اللحظة التي ينكرون فيها حقوق المواطن الأصلي في جغرافياتهم، وعلى خلفية هذه الثقافة والنفسية المبنية على منطق السيد والموالي، أعدمت الحوارات مع غير العربي ضمن الجغرافية التي حلموا بجعلها الوطن العربي.
ومن المعرف أن التاريخ من الأقوياء وللأقوياء، لذلك لم يبلغنا الصحيح والصادق من تلك المراحل الغارقة بالمجازر سوى الفتات، والمعروض اليوم هي ما تلاءمت والسلطات فيما بعد كصفحات من التعامل المنخور والفج، بين مجتمع غرق في التبجح مثلهم سلطات فاجرة، وبين الإنسان المفروض عليه التبعية، وكانت في عمقها علاقات تبنى لمصالح الحكام، وتؤل على القوانين الإلهية، والشريعة الإسلامية، وهي ذاتها التي سمحت للقريشي بالسيادة على العرب، والعربي بالسيادة على الشعوب الأخرى، حتى تلك التي اعتنقت الإسلام، وآمنت بالأمة الإسلامية، وأمنوا بأنه لا فرق بين العربي والأعجمي إلا بالتقوى، أو الناس سواسية كأسنان المشط، في الوقت الذي كان فيه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يعاقب المرأة الموالية المتشبهة بالعربية في اللباس، وحددت عورتها ما بين السرة والركبة، كما أوردها معظم الفقهاء والمؤرخين المسلمين، ومن عهده وفيما بعد وعند تفاقم نسبة السبايا والموالي في المدينة ومكة، حرم عليهم دخول الحضر المديني، إلا بإذن من الخليفة، والبعض يبررها بأنها بدايات مسيرة الانحراف في الإسلام، وظهور أوائل الفرق الضالة، وتحوير الدين الروحي نحو الإسلام السياسي بعد وفاة محمد(صلى). ويتحجج البعض من الفقهاء بأنه لو طبق الإسلام الرسولي، لما أحتاج الكردي ولا غيره من المسلمين إلى طلب الحوار…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
10/8/2016م